+ A
A -
هناك من ينسب نجاح السيد ترامب في الانتخابات الاخيرة في الولايات المتحدة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي BREXIT وكذلك بزوغ الاحزاب اليمينية المتطرفة في معظم الدول الأوربية ( أو بمعنى أخر نجاح وجاذبية الخطاب الشعبوى المتطرف) الى العوامل الاقتصادية الناجمة عن العولمة و حرية التجارة والتي تسببت في انخفاض مستوى الدخل وعدم عدالة توزيعه لدى الطبقة المتوسطة من المواطنين البيض الذين يعتبرون انفسهم المواطنين الاصليين في بلدانهم.
ويعتبرون المهاجرين دخلاء عليهم ويتنافسون معهم على فرص العمل المحدودة التي نتجت عن الميكنة والتقدم التكنولوجي الذى يحل رأس المال محل العمل.
وإذا كانت هذه التفسيرات مقبولة في الحالة الاميركية حيث يعيش الرجل الأبيض محدود التعليم في المناطق الريفية ويعمل في الزراعة او على خطوط انتاج الصناعات الكثيفة العمل (النسيج والسيارات على سبيل المثال) ومن ثم يتأثر بانخفاض أسعار الواردات من الخارج ويشعر انه لم يعد يتنافس في سوق العمل مع مواطنيه وجيرانه في الولايات الأخرى وانما يتنافس مع العمال في شنغهاي ونيودلهي ومكسيكو سيتي والذين يقبلون بأجور متواضعة ويقنعون بظروف معيشية لا يقبل بها ومن ثم يرى في الانغلاق التجاري ومحاربة المهاجرين و بناء الجداران العازلة حلولا لمشاكله اليومية الا أن هذا لا يفسر ما يجري في دول شمال أوروبا.
ان الدول الاسكندنافية ودول شمال أوروبا تتمتع بأعلى مستويات معيشية على مستوى العالم، كما أنها تتمتع بعدالة اجتماعية وتوزيع عادل للدخل مقارنة بأميركا او دول وسط وجنوب أوروبا. هذا كما انها لا تعاني من تدهور الخدمات العامة وانتشار الفساد السياسي وتزاوج المال والسلطة كما هو الحال في الولايات المتحدة ولكن الأحزاب الشعبوية اليمينية في هذه الدول ايضا في حالة ازدهار بل انها تقترب من الحصول على السلطة مثلها مثل بقية الدول الأوروبية الاخرى والولايات المتحدة وبالتالي من الصعب إلقاء اللوم على الأسباب الاقتصادية في هذه الحالة.
اذن ماهي العوامل الحقيقية وراء هذا التطرف اليميني والجاذبية الشعبوية ؟ أولا: ارتفاع وتوقد الروح القومية والوطنية والقطرية. لعل هذا العامل هو السبب الأساسي في تقبل أفكار اليمين المتطرف. فمواطنو الدول الإسكندنافية لا يريدون أجانب بينهم (فقط) لأنهم يشعرون من تواجدهم بالخطر.
أما في أميركا فيلعب العامل الاقتصادي دورا خلفيا في اذكاء هذه الروح وهذه المشاعر القومية الأميركية. حيث لم تقتصر حرية التجارة والعولمة فقط على تبادل السلع والخدمات وانما امتدت لسوق العمل وأصبح من السهل على اية شركة ان توظف عمالا من خارج حدود القطر وإذا تعذر ذلك تنقل الشركة نفسها لمحل إقامة العمالة الرخيصة دون ما مراعاة لحدود الدولة او انتماء الشركة لدولة معينة.
هذا بالإضافة لخاصية مهمة تتميز بها التجارة الدولية وهي أن منافعها (التي عادة ما تكون انخفاض في أسعار السلع المستهلكة) يتمتع بها كافة افراد الشعب ودائما تكون هذه المنافع أكبر بكثير من تكاليفها. ولكن لأن هذه التكاليف (التي عادة ما تكون ارتفاع معدل البطالة في قطاع معين) يتحملها عدد محدود من افراد القوى العاملة. هذا يؤدى الى ان يكون نصيب الفرد من المنافع قليل (لأنها موزعة على كل افراد الشعب) ومن ثم لا يشعر بها الفرد كثيرا اما التكاليف التي تكون مركزة على عدد قليل من الأفراد يكون نصيب الفرد منها عاليا (حيث بفقد الفرد وظيفته) ومن ثم دائما ما يكون المنتقدون لحرية التجارة ذوي مصلحة أساسية في فرض الحماية ويكون المدافعون عنها ذوي مصلحة ثانوية أو غير ملموسة مما يعطى صوتا اعلى وزخما أكبر بكثير للمنتقدين مقارنة بالمدافعين.
سنقوم في المقالة القادمة بعرض لعدد آخر من العوامل التي ساهمت في خلق جاذبية للخطاب اليميني المتطرف الشعبوي.

بقلم : د.حسن يوسف علي
copy short url   نسخ
08/02/2017
4644