+ A
A -
- شِعر مُراوِغ أَتَحَدَّاكَ ألاَّ تُفَصِّلَه على مقاسِ عاشقٍ (كَ).
ما محل كاف الخطاب من الإعراب في القواعد العرفية للقارئ (المذكَّر) إذا كانت كاف الخطاب مجرورا تَجرُّه الشاعرةُ بِعَرَبَةِ الْمُذَكَّر (كَ)؟!
سأنتهز فرصة مصادفتي لقراءتين رقيقتين في مجموعتي الشعرية «حِبر على قَلب» لأقف عند مسألة أثارتْ اهتمامي في جملة ما تَرَيَّثْتُ عنده من قراءات عاشقة وأخرى نقدية في المنجز الإبداعي الشعري على امتداد خريطة الوطن العربي.
يَقول الشاعرُ المغربي الرقيق «رشيد الخديري» في ورقة جميلة بعنوان «حين يتحول القلب حبرا للكتابة! احتراف الحرف احتراف الألم»: «صدر للشاعرة سعاد درير منجزها الشعري «حبر على القلب»، وهذا الديوان المؤثث بتسعة نصوص، قاسمها المشترك احتفاؤها بتيمة الحزن، ومساءلة الآخر في تواؤم تام مع التجربة الذاتية المراد التعبير عنها.. ترسم سعاد درير لوحة فنية عبر المزاوجة بين تجرع كأس الألم، والانتصار للأنوثة، رغم حالة الإحباط التي تخلفها ذكريات الماضي.. دوماً في قصائد هذا الديوان نَجدُ الرجُلَ في قفص الاتهام، مما حدا بالشاعرة إلى رفع راية العصيان والرحيل عن صبوات قصوره وذكرياته».
وفي ورقة أخرى لطيفة لِـ «رضاب الفيصل» بعنوان «سعاد درير تسكب حبرا على قلب» نجد: «كلمات الشاعرة المغربية ذات خصوصية واضحة تُعبِّر بكلّ جرأة عن حنين الماضي وواقع الحاضر.. ثلاثة مقاطع صغيرة ومتلاحقة من الإهداءات، استهَلَّتْ بها الشاعرة المغربية الدكتورة سعاد درير مجموعتها الشعرية «حبرٌ على قلب».. التي اختصرتْ فيها كل ما يمكن أن تقوله من بوحٍ تزدحم فيه الشكوى والحيرة إلى جانب الحُبّ والألم..».
تأملات الشاعر رشيد تقول إن الشعراء يتقاسمون الهوس بصياغة المعنى في أرقّ قالب ممكن، وتَلفحهم النار نفسها، ويُخْتَبَرون بالمطرقة ذاتها، مطرقة التجربة الشعرية التي تقود في النهاية إلى هذا الكون الشعري الباذخ الذي تَسْكُنُه ويَسْكُنُك أنفاسا عَطِرَةً شهيةَ الإيقاعِ عَذْبَةَ البَوْحِ شامخةَ العُودِ زكيةَ الطِّيبِ..
من خلال الورقتين، يَشْتَمُّ القارئان (رشيد ورضاب) رائحةَ الحُبّ الذي تتعثر فيه المرأةُ تحت رحمة مشاعر الرجُل، الرجُل الفارّ إلا من ذكراه تاركا مظلةَ أشواقه التي لا تَحُول بين الأنثى ومَطَر الاستذكار على رصيف الانتظار..
لا ألوم قرائي على تفسيرهم الخاص لما قرأه الواحدُ منهم في شعري، مادام المعنى الحقيقي لا يوجد إلا في ذهني. من حَقِّهم أن يُفَصِّلُوا المعنى كما يشاؤون، ولن أفرضَ على أحد منهم أن يفهمَ النص كما تريد له صاحبته.
لكن الشيء الوحيد الذي يسترعي الانتباه على امتداد ما قرأتُ من كتابات موازية للكتابة الشعرية العربية، مع احترامي لذوق القارئ في تحليله للمقروء، هو أن يربط تلقائيا (في الغالب) كافَ الخطاب، بصيغة المذكر، (كَ) والتاء المتحركة (تَ) بالرجُل (الحبيب) الذي قد يُشَكِّلُ النصَّ الغائبَ في حياة الشاعرة ولا يحضر سوى في ذهن القارئ.
قد لا أبالغ إذا قلتُ إن القارئ يجهل أحيانا أي تفاصيل تُذْكَرُ عن الشاعرة والحياة الصغيرة التي تذوب فيها، فيُصَوِّرُ له عقلُه أن هذه الـ «كَ»، والـ «تَ»، رجُلُ حياتها الذي خرج ولم يَعُدْ، فَرَأَتْ هي من الحكمة أن تَنْظمَ مرثيةَ الوقتِ الضائع، قصيدةَ ليلِ انتظارِ عودتِه الميمونة، مع أن الشاعرة قد تكون بالغةً من العمر عتيا، وهو ما لا يسمح بحضور الرجُل إلا كتاريخ وشاهدة EPITAPHE في أحسن الحالات.
لكن ألا يعني هذا أن شاعرة ثلاثينية قد تكتب بروح متعَبة أحيانا تجعل القارئَ يتصور أن الشاعرةَ امرأة طاعنة في الخريف زَهدَ فيها الجنسُ التَّوَّاقُ إلى الجنس اللطيف؟!
الملاحَظ من خلال تتبع عدد من القراءات في الْمُنْجَز الشعري أن القارئ قد لا يعطي لنفسه دائما فرصة معاينة النص بما يكفي قبل أن يربط كافَ الخطاب بالمذكر كما تُوهِم بذلك الشاعرة.
فالشعر يفتح نافذةً على المجاز والانزياح وما إلى ذلك مما يطيب للشاعرة أن تتكئ عليه تحت سماء الإلهام الذي يُباغتك في لحظات خاصة فيُمْلِي عليك ما تَكتبه بحبر إحساسك الموغل في الشفافية.
شخصيا أَعَدْتُ قراءةَ أشعاري مرات، قد تَفْصِلُ بين المرة والأخرى شهور وسنوات، ولا أبالغ إذا قلتُ إنني كلما قرأتُ النصَّ الواحد أقف عند معنى لا أذكرُ أنني قد وقفتُ عنده سابقا.
كل شاعر يَعرف بأن للكتابة الشعرية طقوسا، وما أكثر مناسبات النص التي تتحكم في سياقه. لكن القارئ للنص بحكمةِ مَن يتذوق ويستنبط المغزى قد تنقصه الحكمة حقيقةً عندما يحكم على مفردات الشاعر حُكما يُجانب الصواب ويسجن اللغةَ في رموز لا يُشترط أن نُفَسِّرَها التفسيرَ نفسه عند كل الشعراء..
من هنا يستكثر القارئ على الشاعر نشوة الإبحار ويُفسِد على القراء الآخرين متعةَ التذوق.
لكن متى كان للنص الشعري المعنى الواحد الذي لا يتعداه إلى سواه؟!
ألا يتفق معي القارئ في أنك بقيامك بحصر الدلالة ألستَ تقتل أهمَّ طاقة بدونها لا يَطيبُ لك شِعر ولا إحساس، نتحدث عن طاقة الإيحاء؟!
حَدثَ لي موقف طريف منذ مدة قصيرة مع كاتبٍ ذَوَّاقٍ لَمَّا قرأ نصا شعريا لي وطفق يحلّ ويربط باحثا عن فكّ تشفير لا يوجد سوى في مخيلته لنصٍّ يَجهلُ كُلَّ شيء عن دواعي كتابته، واكتفيتُ أنا بالفرجة وأنا أحاول أن أَلْجمَ لسانَ اعترافاتي بدواعي الكتابة، بل ذهب بذهنه أبعد من هذا عندما تراءى له النص وكأنه يُسَيِّجُ حُدودَ عالَمٍ مُغْلَق أَثَّثَهُ بما أملاه عليه تَمَاهيه مع اللغة المستعمَلة، ثم سرعان ما تجاوز عَتبةَ الظنِ لَمَّا أَكَّدَتْ له واقعةٌ بعينها (كان هو شاهدا عليها) استحالةَ التخمين ولا جدوى الخلفية التي بَنَى عليها طَرْحَه.
وأنتَ بين يدي النص (الشعري) لا تَشغلْ نَفْسَك بترجمة الكلمات صوريا، لأن الكلمة الواحدة قد تستخدمها الشاعرةُ الواحدة على أكثر من وجهٍ وشاكلة.
لذلك أوصيك بألا تنساق مع المفردة مجردةً مما غَلَّفَتْها به الشاعرة من إيحاءات بحكم علاقتها الوطيدة بسائر المفردات التي ترتبط في ما بينها وفق رؤية خاصة يحددها الاستخدامُ اللغوي وسياق النواة الفكرية.
وإليك عزيزي أزفُّ بعضا من شِعري (الْمُراوِغ) الذي أَتَحَدَّاكَ ألاَّ تُفَصِّلَه على مقاسِ عاشقٍ (كَ) لمجرد أنه يحمل توقيع أنثى مُوثرةً أن أحتفظَ لنفسي بالدوافع الباعثة على الكتابة:
«أَبْعَد من خط الرجعة أسوار تأخذكَ..
أَنْعَم من ملمس الحرير على أكفّ الراحة بساط يحملكَ..
أَقْرَب من هدب العين صبّار يَجرحُ الهواء ويَجرحكَ..
وأَقْسَى من صرخة الروح شَجَنٌ يَجْلدكَ وآخر يُداويكَ.
الرغبة في إكليل المجد على عرش الحُلم فترَتْ،
والحَمَام الذي رفرف قريبا من هنا طار،
والليل الذي أقمر فيه عنادكَ رحل،
والسّروُ الذي تسلّقه شموخكَ انحنى،
والجنون الذي دلّكَ على رمال الطفولة عاجلا انطفأ.
الشجر الذي أزهر حنينا بحضوركَ طفق مصلوبا عليه أَلِف باهت كالوهم،
والسنابل التي زَرعَها تَوْقُكَ إلى قبلة الشرق اقتلَعَتْها ريح غيابكَ،
والأمل في الغد الأزرق باردا كالصقيع مرّ من هنا.
الضفاف التي رسمتْكَ نهرا حالما لَعقَتْ ملح كأسكَ نخب الوجع،
والوجع الذي امتشقْتَه سيف نبوءةٍ حَطَّ على نافذة حياتكَ رذاذا،
والرذاذ الذي عَلَّمكَ فنون الغواية اشتهى آية الفجر محرابا.
الطريق إلى مدنكَ ناءٍ ناءٍ، وأنتَ المسافة..
المسافة إلى ليل سهادكَ بعيدة بعيدة، وقربكَ الطوق..
الطوق الذي ذات وَعْد انتصب على جسر الخوف أمسى أفظع من الحقيقة..
الحقيقة التي قادتكَ إليها حفنة شموع في أول المنفى عبثا يؤرخها الحرف..
الحرف الذي نَبَّأكَ بدموع الورد قَلَّمَا يُخْطِئُه الحدس..
الحدس الذي أَسَرَّ إلى ورقة الندى بعودتكَ تَكْفُر به أديان القلب..
القلب الذي ملّكْتهُ نزواتكَ تصفعه يَدُ الندم..
الندم الذي هوى بكَ في الساعة الأخيرة من الليل شيّع جثمان الأمس..
الأمس الذي اكتوى بفتوحاتكَ بريئا كان من هزة إعصاركَ ملء السقوط..
السقوط الذي أرداكَ أكثر حرية من جبروت الرغبة أحالكَ على سجن الذات..
والذات الذي أضعْتَ الطريق إليها دَلَّتْنِي عليكَ». (سعاد درير، ضفاف لكَ أجاريها، شعر).
copy short url   نسخ
04/02/2017
5281