+ A
A -
نعم الله كثيرة، ولا تُحصى، وما وهبنا الله نعمة الا لنستخدمها خير استخدام، والبصر إحدى هذه النعم، فالإنسان المبصر يشعربالنور والضياء، وبالتالي يعيش الاطمئنان الروحي، والثقة والسرور والثبات في القلب، وإن فقد الإنسان نعمة البصر عوضه الله بغيرها من النعم، أو بقوة في حواسه الأخرى تعوضه ما فقد، وان كان البصر نعمة، فالبصيرة ثروة تحجب الإنسان من الزلل، وتقف حاجزا بينه وبين السوء عليه وعلى من حوله، فالبصيرة هي الحكمة والعلم، وتحمل أدق معاني الكمال للحياة، والتطبيق الصائب في المواقف الإنسانية المتعددة، وتنير القلب، وتميّز الطريق الذي يقودنا إلى النجاح، الذي يغمر حياة المرء بفيض المشاعر لرؤية الأشياء رؤية صحيحة على حقيقتها، بل وتبزغ وتعمل من داخل النفس المطمئنة بالله، فالبصيرة هي الوسيلة التي تسيطيع بواسطتها إدراك عالم المُثل الذي لا تدركه الحواس الخمس.
وإن عدنا للبصر، فهو الرؤية بالعين لكل شيء تقع عليه عيناك، فمدار البصر العين، فإذا تعطل عملها لسبب ما توقفت الحاسة، أما البصيرة فهي نور في القلب يبصر به العبد ما لا تبصره العين، وإن عميت أو تعطلت عن العمل، ولا علاقة للبصيرة بالبصر، فمدار عمل البصيرة هو القلب، وهي نور يقذفه الله في القلب، فيرى حقيقة الأشياء، ويدركها كأنه يشاهدها مرأى العين، هذا وتتفاوت درجات البصيرة عند الناس، بحسب معرفتهم وتعلمهم لأمور الدين الحق والعلم بفساد الشبهات المخالفة للحقائق، بل وبدرجة الإنسانية بداخلهم - فليس كل من حمل مسمى إنسان لفظا هو أيضا حامل للإنسانية فعلا- وهناك البصيرة الفطرية التي تجدها عند عامة الناس البسطاء،، فهم أفضل، حالا، من أهل الكلام الباطل، إذا ابتعدت فطرتهم عن البدع والانحرافات الدينية، فالله عز وجل قال (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). ولعل أشهر النواقص التي ابتلي بها الكثيرون اختلاط المواقف في التطبيق، وقصر نظرهم في الإصلاح على أنفسهم ومجتمعهم، وإغفالهم السعي للتغيير والتجديد وتعميم الخير والعدل. وليس الأعمى من لا يرى إنما الأعمى هو الذي لا يشعر بالحق الذي يراه، ولا يتدبر الموعظة التي أمامه، فكم من بصير يرى بعينيه ولكن قلبه لا يرى شيئًا! وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق! فكل أصحاب العقول وكل ذوي الأبصار يرون الحق فيتبعونه، ويعرفون أهله فينضمون إليهم، أما الذين طمس الله على قلوبهم فهم يسيرون بلا وعي أو إدراك؛ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]. فالبصيرة «قوة القلب المدرك الواعي»، لذلك البصر مختلف كليًّا عن البصيرة التي هي أساسها القلب، ولو كان الرجل أعمى وصلحت بصيرته لما ضره ذلك شيئًا!
الآن قراء هذه الاسطر الأعزاء تعالوا معي نتحدث عن الصداقة التي لا تعقد مع الآخرين فقط بل قد نعقدها مع الأشياء وظواهر الطبيعة، ومع أدق التفاصيل، فيمكن لمكان ان يشدك إلى ذكريات، وبالتالي يصبح صديقاً أليفاً، ويمكن لزاوية حميمة في البيت أو لمقعد مكتنز بالذكريات أن يتحولا إلى صديقين طيبين، بل وجميعنا يعلم أن كتابا جميلا ومفيدا قد يصبح هو الآخر صديقا وفيا، فهل سألنا أنفسنا مرة عما إذا كان من الممكن أن نعقد صداقة مع أنفسنا؟ ألا يبدو السؤال غريباً حين نعلم أن الصداقة تعقد مع الآخر لا مع الذات هل ننشطر شطرين حتى يتآخيا، أي أن يعقد أحدهما علاقة صداقة وأخوة مع الشطر الآخر، أم أن الأمر يتصل بمنطقتين مختلفتين في ذواتنا عليهما أن تتصالحا وأن تعقدا صداقة؟
وإذا كانت المنطقة الأولى هي من يحكم سلوكنا الخارجي الخاضع لاعتبارات خارجية شتى لسنا من يحددها لأنها قائمة خارجنا بصرف النظر عن رأينا فيها، فإن المنطقة الأخرى هي تلك الساكنة في أعماق ذواتنا، ولكي تكون متسقاً مع ذاتك خذ بهذه النصيحة: غص عميقاً ولا تصعد أبداً لأنه في الأعماق الساكنة وحدها يتاح لنا أن نرى ونسمع وأن نتحرك ونتواجد، وما من نعمة تضاهي نعمة أن يغوص المرء في قاع وجوده، وأن يرهف السمع لنداء ذاته، وأن يستجيب لهذا النداء، انه نداء - البصيرة- فللقلب بصيرته، التي تجعل الأمور أزهى وأرق وأعذب، وإن خالفت بصيرة القلب فإنك ستقع أسير النظر إلى الحياة كحكمة يومية أو كموعظة، ستلقي بنفسك في دائرة ابتذال العادي ورتابته الأشبه برتابة دوران ساقية، تعيد الخطوات ذاتها في نسق ممل، ولنتذكر انه لتستقيم الصداقة مع الذات علينا ان نمتلك شجاعة الإصغاء لبصيرة القلب. وفي الختام هذا سلامٌ من القلب لقلوبٍ بصيرتها حية تُرزق.

بقلم : ابتسام الحبيل
copy short url   نسخ
28/01/2017
7126