+ A
A -

الصورة نص مرئي، كتابتُه إبداع، وقراءتُه مهارة. الصورة اختزال لما يستعصي عليك تجسيده في نص لن تُسعِفك أصابعك (نيابة عن فَمِك) لتقول فيه كل شيء. الصورة تَضْبِطُ عقاربَ ساعةِ قلبِك على الزمن العربي وعلى مسافة اللحظة الهاربة التي يَصْهل فيها حصانُ الإنسانية انكسارا لا انتصارا.
الخيطُ الذي يربط بين الإِنْس تَقَطَّعَ (أو كَادَ) في ذروة سباق الأنا المحموم الذي تَكَسَّرَتْ معه مرايا الذات، وأُطْلِقَ العنانُ للسبات الذي يُعطيك درسا في الأنانية، وما جدوى أن تُحَبَّ أنتَ إن لم تُحِبّ الآخَرَ.
أكثر من ظِلّ تَضْبِطُه الصورةُ مُتَلَبِّساً. لكن صورة بعينها هاربة من تحت مظَلَّة الزَّمَكَان السوري تقول: ها أنا.
في سوق الإنسانية يُعْرَضُ الموتُ بالجملة. وأنتَ يا إنسان لَكَ الله وأنتَ تُسْقى من كأس المنية ما لا تُسْقاه من قطوف دانية. بأي مشاعر أتحدَّثُ عنكَ وأنا أراك كالسمكة التي أجبروها على مفارقة البحر وقالوا لها: «عيشي» بالقوة، وكأن العيشَ مقاسات.
ما أَرْخَصَكَ يا إنسان ويَدُ شَبيهِك في الصورة تَعْبث بنَقَائك وطهْرِك وتَعِيثُ فسادا في أرض كرامتِك التي تحَوَّلَت بإِذْنِ شيطان إلى ملعبٍ لتسجيل أهداف قاسيةٍ في مرمى قلبِكَ حزْناً على أرضٍ سُلِبَتْ وكَمَداً على أرواح دُفِنَتْ وخَوفا على فلذات كَبِد في طريقها إلى المقبرة..
قلبُك يَسْتَشيط وأنتَ تَعْتَصِرُ الزمنَ الراكض بأشلاء جُثَثِ من غادروا مُغادرة لا طوعية إمَّا مَوتاً وإمَّا حياةً مع وقف التنفيذ..
أَوَّلُ شيءٍ يسترعي انتباهَك في الصورة (الموازية) الفئةُ المستهدَفةُ بها: كُلّ الشرائح..
صورة كهذه تُخاطِبَ حاسةَ الأُمومة في الذات المصلوبة على جدار انتظار متى تَنْزَاحُ هذه الغمَّة التي تَهزُّ الأُمَّة..
هل نتصور معنى أن نَعيش اللحظةَ الحاسمةَ التي يَعيشها من يَتَقاسَمُ مع الطفلين البطولةَ في الصورة؟! هل جَرَّبْتَ الإحساسَ بأن قِطعةً من قلبِكَ تَحْمِلها كما يُحمَلُ ميت على نَعْش، فإمَّا القبر (المثوى الأخير) وإمّا القبر (قبر الحياة في القِفار والفَلَوَات)؟!
في أيّ شريعةٍ تُسْتَبَاحُ الأرواحُ، ويَتِمُّ الفِرار من الموت إلى الموت؟!
الحرب! كأنها زلزال مَرَّ من هنالك. حين يُداهِمُك الزلزال أو مجرد هَزَّة أرضية على درجة عالية نوعا ما على سُلَّم ريشتر يَنْتابُك الهَلَع، تَخْرُج هكذا، كما خرج بَطَلُ الصورة، لن تُفَكِّرَ في حمل حقيبةٍ أو أغطيةٍ أو حَفَّاظات، لن تحمل سوى قَميص مُمَزَّق يسمى عبثا الحياةَ، قميص الطفولة: صَغيرك.
إنه صغيرُك يا مَن تُعَلِّمُكَ الحربُ كيف تَقول: «هَرِمْنَا! هَرِمْنَا فِراراً من هذه اللحظة التاريخية!» كما قالَ عَكْسَها شاهِد عيان من نجوم زمن ثورة تونس..
من علامات البشاعة أن يعيش بلد عربي إسلامي ما يعيشه أهل الشام حيث الجُرْح يَنِزُّ ويأبى الالتئام، كيف يلتئم وشوكةُ الموت أصابتْ قلبَ الإنسانية، فامتلأتْ أرضُ الشام بأكثر لون لا يُطاق، لون الدم الذي امتدَّ من الأرض إلى الْمُقَل التي التهبتْ كالجمر تَأْريخاً للحظاتِ الفَقْد..
كيف يُصَدِّقُ مَنْ لا يَهمُّه سوى الحياة (بصورها المأكولة والملبوسة والمركوبة..) ما معنى طَعم العيش في منطقة منكوبة، مشتعلة حدّ الغليان وحَطَبُها إنسان؟!
الحربُ تَعْتَصِرُك، ومَوْتُ قُرَّة العين يَعتصِرك، وخوفُك من أن يَسْقُطَ سقفُ بيتِك فوق رأسك يَعتصِرك، وأنتَ المسكين تستميت لاعتصار صَرْخَةٍ يتيمة، فإذا بِصَوتِك يَخُونُك. الصرخةُ تحتاج إلى وَقُود، وأنتَ بطنُك وقلبُك كلاهما جائع إلى الزاد، وأوَّلُ الزادِ زادُ قلبِك، العاطفة، العاطفة الْمُعَلَّقَة على عَمود يُسَمَّى القلب الميت الذي يَتَلَذَّذ بسادِيةٍ وهو يَشْويكَ شَيّاً على مجمر رغباته المنفرطة حباتها من عقْدِ الْمَنْطِق.
الْمَشهَد يُلْهِبُ العيون. تَعَرَّف إلى أبطال الصورة: هناك أَبٌ مَكْلُوم، قِطْعَتا لَحْمٍ مُعَلَّقَتان (فتاتان) تتدلى من شَعرهما ضفيرتان.. طفلة تشرئب بعنقها ناظرةً إلى الأرض تحتها وكأنها تلتمس طريقَ النجاة بعيدا عن لَغَم مدفون أو حفرةٍ حَفرَها لئيم لضمان بقائهم تحت سقف الموت من باب العقوبة والتأديب على ذنب عظيم، ذنب الرغبة في الحياة. والطفلة الأخرى تَعود برأسها إلى الوراء وكأنها لم تَشْبَعْ من دُمية فارَقَتْها في البيت الصغير الذي يسمى الوطن الْمُصَغَّر والوطن منه بريء.
السؤال الآن: أين أُمُّهُما؟! ربما ابتلَعَها الموتُ في محطة أخرى، وربما تَأَبَّطَتْ هي الأخرى طفلين آخرين من باب البحث عن النجاة إن لم تكن قد تلقَّفَتْها بهما كَفَّا مَوجٍ أَلْقَتَا بها (وبالطفلين) في فَمِ البحر الجائع.
والأَبُ؟! ما هو الانطباع الذي يتركه عندك الأبُ الضائع؟!
هو المسكين يُسابِق قَدَمَي الزمن مندفعاً بفلذتي كَبِده إلى طريق مجهول لا ندري إن كانت نهايتُه بابا مسدودا أم هاوية.. لكن مَنْ قال هذا؟! إنها ملامح وجهِه تَقول وتُعيد، فهو يَرْنُو إلى الأُفُقِ بعينين شاردتين تقولان إن في انتظاره مُسْتَقْبَلاً بدون مَلامِح!
هناك شخصيتان ثانويتان في الصورة لن نقف عندهما لأن التموقع المركزي لأبطال الصورة يغطي مساحةَ الأبِ وطفلتيه، وهُم (الأب وطفلتاه) الشخصيات الرئيسية التي تَفْتح بابَ الإيحاء والتأويل في الصورة.
ما يثير الاندهاش السلبي هو ألوان اللباس الذي يلبسه كل من أبطال الصورة. صحيح أن الصورة الفوتوغرافية الملتقَطة في مشهدِ حربٍ تكون انتقاءاتُ ألوانِها اعتباطية، لكنها مع ذلك لا تخلو من معطيات توازي الدرسَ والعبرةَ في مدرسة الحرب التي يَشيب فيها التلميذُ الفاشل، الإنسان.
اُنْظُرُوا إلى الأَب! ألا يُضاعِفُ بَياضُ قميصه من جرعات الدلالة على الموت؟! ويا لخيبة معنى الحماية الذي ساد الاعتقاد لوقت طويل أنه أكثر معاني البياض! عن أي حمايةٍ نتحدث ونحن في زمن الحرب التي تَطْمس معالِم البياض وتُلَطِّخُ صفحتَه وتبتر سيقان أسباب الحماية؟!
لكن مهلا، أليس معنى الحماية واردا إذا نظرنا إلى مفهوم الحماية باعتباره بساطَ الريح الذي يُحاول الأبُ أن ينقل على ظهره قِطَع الطِّين (صِغارَه) قبل أن يتحولوا إلى حَطَب يُشَكِّلُ وَقُودَ الحرب؟!
والحكمة بعد هذا في أهمّ لونين يَلفَّان الطفلتين: الوردي والأخضر. اللون الوردي لون الورد، الجمال، الوطن كما كان يُفْتَرَضُ أن يكون، لماذا؟ لأن الوطنَ سقف وجدران، لأن الوطنَ أمان، لأن الوطنَ بيت كبير تَستمِدُّ منه الدفءَ، وكما تَفِي أنتَ بالتزاماتك تُجَاهَه، فَلَكَ عليه حقوق من واجبه أَلاَّ يُقَصِّرَ فيها..
أما اللون الأخضر ِلِمَنْ لا يَعْرف معناه، فهو لون الأمل، لون الربيع، لون الخصب، لون البهجة، وكلها نصوص غائبة في مقام كهذا الذي يلتقط له المصور صورةً من زاوية منفلتةٍ كاللحظة التي تُؤَرِّخُها الصورةُ. لكنها إذا كانت مُنفلِتةً (في عيوننا)، فإنهم يعيشون فيها الثانيةَ أو الجزء من المائة بِعُمْر الدهر، الأَلَمُ يُورِقُ، والأمَلُ يُقْبَرُ.
فأَيّ مَصيرٍ هذا الذي هو في انتظار الطفلتين: الانتصار لطموحات الأب المشروعة على أساس أنها حقه الطبيعي في أن يحيا ويُحيي ابنتيه، وبذلك يَدْفن الماضي الرهيب؟! أم الانكسار الذي يَسْتَدْرِجُ الأبَ وابنتيه إلى حفرةٍ تحت الأرض أو قَبْرٍ في قلبِ البحر قبل أن يَرْفُضَهم البحرُ ويَلْفظهم جثثا كما يَلْفظُ سمكا نافقا؟!
الحَيِّزُ الذي احْتَلَّه الأبُ وابنتاه على هامش الصورة يَعْكِسُ الوَضْعَ الحقيقي لهم في إطار كينونتهم كأحياء يتقاسمون في ظل التهميش مساحةَ الوجود بالفعل، أو الوجود الافتراضي على اعتبار أنهم كائنات مسيَّرة تَجْرِي مَجْرَى ما لا تَشْتَهيه سُفُنُ إرادتها المعطَّلة.
والحديث عن الهامش يَقودنا إلى الفضاء الذي تُجَسِّدُه الصورةُ. إنه عَالَمٌ مُهْمَل، مُبَعْثَر، فَوْضَوي، يَغيبُ فيه أَدْنى إحساس، مُهَدَّم، مُخَرَّب، كأنه ما تَبَقَّى من قريةٍ غير آمنةٍ لَحسَها إعصارٌ أو ضَرَبَها زلزال بِقَدَم عِملاقة من حديد، وطَحَنَ أهلَها كالعبيد. هل هؤلاء حَقّاً بَشَرٌ بِقُلوب وأرواح؟!

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
28/01/2017
3778