+ A
A -
بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لتنصيب «هيئة الإنصاف والمصالحة»، في المغرب استعادت الصحافة المغربية الدروس الأساسية لهذه اللحظة الحقوقية غير المسبوقة في العالم العربي والإسلامي، والمتميزة أساسا باعتبارها تجربة فريدة للعدالة الانتقالية، لأنها لم ترتبط بتغيير جذري لطبيعة النظام السياسي، ولا جاءت في سياق ثوري، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للتجربة التونسية المنطلقة أخيرا.
ذلك أن سياق التجربة المغربية، ارتبط بمسار تحول ديمقراطي وانفتاح سياسي وحقوقي، عززه وصول ملك جديد إلى العرش، حيث تبلورت الفكرة في البداية داخل فعاليات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان، وخاصة نقابة ضحايا سنوات الرصاص، المعروفة بمنتدى الحقيقة والإنصاف، والذي باشر منذ نهاية القرن الماضي مسلسلا للترافع والإقناع مقدما أرضية متكاملة من أجل عدالة انتقالية وفق المعايير الدولية ودروس الممارسات الفضلي في هذا الباب،قبل أن يلتقط المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الإشارة، وهو الذي استطاع بعد نقاش «تاريخي» بين أعضائه، صياغة توصية بهذا الشأن مرفوعة إلى المؤسسة الملكية، التي أعلنت بعد ذلك موافقتها على روح ومنطوق هذه التوصية الشهيرة في 2003، وهو ما فتح المجال أمام تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة.
لتنطلق في الاشتغال بعد تنصيبها في يناير 2004، وإلى غاية نهاية مهامها في 30 نوفمبر 2005، باعتبارها لجنة للحقيقة وللمصالحة، تهدف للتسوية العادلة غير القضائية لماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
(1956-1999)، عبر جبر الأضرار واستخلاص الحقائق والعبر لمصالحة المغاربة مع تاريخهم.
في هذا السياق، لابد من الوقوف على الكتاب الأخير لامبارك بودرقة وشوقي بنيوب، «كذلك كان»: مذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة . فهذا الإصدار ليس مجرد محكيات ويوميات فاعلين مركزيين في تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، ولا مجرد بحث في سياقاتها ومآلاتها.أبعد من ذلك، يتعلق الأمر بإعادة بناء لتجربة العدالة الانتقالية المغربية، بمرجعياتها، محطاتها، وجوهها، مخاضاتها ومخرجاتها.
الكتاب- الوثيقة «كذلك كان»، بالنسبة إلى الحقوقيين شهادة غنية، وضرورية لبناء الخلفية العامة لسياق العدالة الانتقالية المغربية، وبالنسبة إلى السياسيين درس ملهم في تدبير لحظات الانتقال الديمقراطي في مسارها الحقوقي، وهو بالنسبة إلى الباحثين حالة نموذجية لجدوى «الإصلاح»، في ملف حساس ومعقد، بما هو تمرين شاق وحاجة ماسة إلى التفاوض وإعادة التفاوض، ومنهج قائم على البحث المضني عن المشترك، وتملك فضائل الاعتراف والتواضع والحوار والنفس الطويل.
حيث يشعر القارئ المنبهر بدسم المادة وثرائها، بأنه يقف مباشرة خلف الباب الموصد لمطبخ إنتاج القرار السياسي، وأنه يملك كوة ضوء صغيرة تمكنه من إعادة بناء وتركيب تفاصيل قرارات استراتيجية في المغرب الحديث، انطلاقا من أدوار الفاعلين، وتقاليد المؤسسات الرسمية، وحيوية دوائر الاستشارة، وذكاء الحركة المدنية، و«تقارب» المعتدلين من كل الجبهات، وحكمة الوساطات.
إصدار هذا الكتاب، الذي يذكرنا قطعا بمؤلف «جاك أطالي»، الذائع الصدى «طبق الأصل»، فضيلة حقيقية في باب الوفاء للذاكرة، ذلك أن المنجز البحثي والتوثيقي والتحليلي والتأريخي، الذي اتخذ كأفق له التفكير في تجربة العدالة الانتقالية، لا يعادل موضوعيا قيمة التجربة وأبعادها، إذ ليس في الخزانة المغربية، سوى نزر قليل من الكتابات التي تُعنى بأدب العدالة الانتقالية.
توحي تجربة الهيئة كما نعيد قراءتها في «كذلك كان»، بدرس مركزي، يتعلق بأن السياسة ليست مسارا خطيا لتنزيل توجيهات فوقية جاهزة، وأن ما يبدو في النهاية قرارات نهائية، ليس مجرد ترجمة بسيطة لرغبات «سيادية» بقدر ما هي، في حالات كثيرة، نتاج معقد لمخاضات من التفاعل والترافع والتلاقح والتراكم والتسويات، في مستويات متعددة ومختلفة.
ذلك أن التقدم لا تصنعه المواقف الحدِّية والقطعية، فما يبدو في الأحكام السهلة والسريعة مجرد «مناورات»، بلغة علماء السياسة، قد يتحول بقوة منطق السياق والأحداث وديناميكيتها الخاصة إلى فعل في التاريخ.
و«كذلك كان»!.
بقلم : حسن طارق
copy short url   نسخ
27/01/2017
5504