+ A
A -

- ثَرْوَة في الكَفّ.. فما أجمل أن تَحْفَظَها!.
كلما تأملْتَها لوحةً باذخةً أُعْجِبْتَ أكثر فأكثر بأَلَقِها وبهائها وبريقها وجاذبيتها وفتنتها وسحرها الذي يجعل من العقل والقلب يَدَيْنِ تُصَفِّقَان لها بحرارة..
إنها لغتنا العربية، الصرح الكبير المبهِر الذي يحتاج منا الاهتمام حتى لا يتداعى.. لغتنا كنزنا هي الساحرة الجبارة، ولا أدلّ على ذلك مما يفعله بكَ الشعرُ الذي ينحني له إحساسُكَ وإدراكُك تقديرا..
أما قرآننا الحكيم، فلا يزيدك إلا حلاوة وطلاوة بما يُعْجِزك ويُبْهِرك من عظيمِ آياتٍ يَشدُّها حبل اللغة، فلا تَجِد أمامه إلا أن تُمَجِّدَه وتُثَمِّنَه وتُحَدِّث نَفْسَك بعظمة الخالق..
في حلقة سابقة من باب «بين حرفين» وقفتُ بكم عند الجِناس في اللغة العربية (لما كَلَّ مَتْنِي كَلَّمَتْنِي)، واليوم أقف بكم عند جمالية أخرى من جماليات لغة القرآن.
سأجرِّبُ أن أقطفَ وردةَ فواحة من حديقة عطرةٍ تأسر عينيّ، ثم سأضعها في حضن كتاب. لننظرِ الآن بماذا سيتفوَّه مَن يرى المشهَدَ كاملا:
«قطفتْ سعادُ وردةً». هذا ما سيقوله أحدُهم.
لكن هل سيتوقف المعنى هنا؟!
لا طبعا.
لماذا؟
ببساطةٍ لأن في وسع غير الأول ممن عاينوا المشهدَ أن يقول:
«قطفتْ وردةً سعادُ».
معروف في اللغة العربية أن الفاعل يأتي مرفوعا، وأن المفعول به يأتي منصوبا.
إذا أطللنا من نافذة المعنى، سنجد أن هناك معنى عاما واحدا يجمع بين الجملتين:
هناك وردة فُعِلَ بها ما فُعِلَ بها (تَمَّ قطفها). إذن، الوردة هي المفعول به.
فَمَن قام بالفعل؟ مَن فعلَ بالوردة ما فَعَلَه بها؟ إنه الفاعل: سعاد.
الفِعل: القطف.
الفاعل: سعاد.
المفعول به: الوردة.
لكن إذا تمعَّنْتَ في كل جملة على حدة، ستجد أن هناك اختلافا بين الجملتين يُتَرْجِمُه السؤال الآتي: «لِمَنْ أُعْطِيَتِ الأهميةُ؟».
إذا أخذنا الجملةَ الأولى:
«قطفتْ سعادُ وردةً»
سنجد أننا قَدَّمْنا الفاعلَ (سعاد) وأَخَّرْنا المفعول به (وردة).
وإذا أخذنا الجملةَ الثانية:
«قطفت وردةً سعادُ»
سنجد أننا قدمنا المفعول به (وردة) وأخرنا الفاعل (سعاد).
الأصل في ترتيب الجملة في اللغة العربية أن نُقَدِّمَ الفاعلَ ونُؤَخِّرَ المفعول به. لكننا نخرج عن هذا الترتيب أحيانا لأسباب.
عندما نُقَدِّمُ الفاعل (سعاد) على المفعول به (وردة)، فأنا لا أعطي الأهمية للوردة الفواحة العطر، وإنما أعطي الأهمية لِمَن قام بهذا الفعل الكبير وقطف الوردة، إنه الفاعل (سعاد).
وعندما نُقَدِّمُ المفعول به (وردة) على الفاعل (سعاد)، فأنا أعطي كل الأهمية للوردة التي تعرضَتْ للفعل (القطف)، وأقوم بتهميش الفاعل (سعاد) كأن لا أهمية له، لذلك أضعه في مرتبة متأخرة.
نلاحظ بالتالي أن الجملة السابقة يَجُوز لي فيها أن أُقَدِّمَ المفعول به أو أُقَدِّمَ الفاعل حسب رغبتي في لفت الانتباه إلى ما أريد منهما. إنه التقديم جوازا.
غير أن هناك حالات يجب عليّ أن أُقَدِّمَ فيها الفاعل، منها الآتي:
«خانَتْ ليلى يسرى».
نلاحظ في هذه الجملة أنني في موقف صعب، لماذا؟! لأن كل اسم عَلَم ينتهي بحرف تكون فيه الحركةُ غير ظاهرة، لذلك تأتي الحركة مُقَدَّرَةً إذ المانع من ظهورها التعذُّر، فلا يكون من الممكن أن أعرف مَن هو الاسم العَلَم الذي جاء في وضعية الفاعل (المرفوع بطبيعته) ومَن الاسم العَلَم الذي اتخذ صفة مفعولٍ به (منصوب بطبيعته)..
في هذه الحالة، وخشية الالتباس في معرفة الفاعل من المفعول به، يجب أن ألتزم بالترتيب الأصلي للجملة، بالتالي يكون وجوب تقديم الفاعل وتأخير المفعول به. وعليه، يجب أن تكون «ليلى» فاعلا و«يسرى» مفعولا به.
وخلافا لما رأينا من وجوب تقديم الفاعل، نقف عند حالة أخرى يجب فيها تقديم المفعول به، ولْنَجِدْ ضالتَنا في القرآن.
تَأَمَّلِ الآيتين القرآنيتين التاليتين:
«إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ». سورة: فاطر، من الآية: 28.
«وَإِذِ ابْتَلَى اِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ». سورة: البقرة، من الآية: 124.
منطقيا لا يستقيم المعنى لو تم تقديم الفاعل في هاتين الحالتين. لذلك يتم تقديم المفعول به وجوبا.
بالنسبة للشاهد الأول من سورة فاطر، فقد تم تقديم المفعول به (اللهَ) على الفاعل (العلماءُ) الذي جاءَ مؤخرا بغاية حصر الفاعلية، لأن القيام بالفعل محصور في الفاعل دون سواه، فنفهم بالتالي أن خشية الله محصورة في الفاعل الذي هو «العلماء». وكل قراءة ترفع «الله» وتنصب «العلماء» هي خاطئة، لماذا؟! لأن الله جل جلاله لا يخشى أحدا، لكن العبادَ (العلماء) يخشونه.
وفي الشاهد الثاني من سورة البقرة، تم تقديم المفعول به وجوبا (إبراهيمَ)، لماذا؟! لأن الفاعل «رَبُّ» اتصل به ضمير (ـــهُ) يعود على المفعول به (إبراهيم). ولا غرابة أن يكون الله هو صاحب القوة والعظمة الذي يبتلي عَبْدَه، بينما لا يَخرج «إبراهيم» عن كونه العبد الذي يبتليه اللهُ من باب اختباره.
هي هذه (في جانبٍ منها) لغتُنا المعطاء: جودة وتميز وسخاء.. هي عِقْد لا تنفرط حَبَّاتُه مع شيءٍ من اهتمامنا بها.. فهلا تساءلنا لماذا لا يتذوقها العربي حَقَّ تَذَوُّقٍ ولا يُقَدِّرها حَقَّ تقديرٍ ولا يستثمرها حَقَّ استثمارٍ ليُبْدِعَ بها الدُّرَرَ ويَصْنع منها الفرائد؟!
إن لم نُقَيِّمْ لغتَنا نحن الآن ولم نُشَجِّعِ الأجيالَ اللاحقة على التنبه والتنبيه إلى أهميتها فلن ننتظر الآخَرَ الأجنبي ليُعطيها حقها ويزنها بميزان العدل.
لُغَتُنَا ثَرْوَة.. ثروة في الكَفّ.. لُغَتُنا وَطَن.. فما أجمل أن تَحْفَظَها حتى لا تَضِيعَ مع ركام ما أضعناه من أوطان تمتد من الوطنِ الْمَكان إلى الوطنِ الإنسان! ما أجمل أن يكون لِسانُكَ عربيا فصيحا!

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
21/01/2017
2975