+ A
A -
- في الانتظار ما هو أكبر من الوعد والعهد.. في الانتظار الأملُ.
صباح الحرف.. مساء الحرف..
هي الأنثى الخالدة، هي مَوْلاته ومُلْهِمَتُه وفَتاتُه، فَتاتُه والسيدة الأولى، سيدة قلبه التي عشقوها قبلَه وبَعدَه، وما قال لهم لا، لأنها تستحق العشق، عشقوها، فبَارَكَ هو وزَكَّى، لأن امرأةً معبودة بجلالها وقَدْرِها تستحق أن تُعشَقَ..
«عسلٌ شِفاهُك، واليدان
كَأْسَا خُمور
للآخرين» (نشيد ما).
أليس في هذا سَقْفُ الكمالِ وتمامُ نُضْجِ المشاعر؟!
بوح الشفاه يُحْلِي الوقتَ الْمُرَّ، وقُبلة، تطبعها على يد حبلى بالتوق، تُعِيدك إلى سيرتك الأولى قبل أن يَتَصَرَّفَ فيك الزمنُ وتترهل ذاكرةُ حِسِّك الإنساني بين مَدٍّ وجَزر..
فمَن النحلة (النحل) المحظوظة بهذا الرحيق؟!
وإلى من تعرف الطريقَ هذه الكأس المعتقة من دالية ضاربة بجذورها في قلب الزمن؟!
هي المرأة التي قَتلَتْ كُلَّ الإناث، وبِعِشقهم لها أَمْطَروها قُبُلات، قُبُلات تُورِق من الحَرْف إلى الحَرف، تُزْهِر من الحَرف إلى الحَرف، تُثْمِر من الحَرف إلى الحَرف..
«أَعِدِّي لي الأرض كي أستريح
فإني أُحِبك حتى التعب» (يطير الحمام.. يحط الحمام).
مُتْعِبٌ هو الحُبّ!
حقا مُتْعِبٌ هو الحُبّ!
فكيف للمعذَّب بحبِّه أن يستريح في غياب الأرض؟!
وكيف للدرجة القُصْوَى من التعب أن تكون موازية لدرجة حلول الْمُعَذَّب بحبه في مَن يُحِبّ؟!
هي شجرة لا تموت، ولا تموت عصافيرها مهما أطلقوا عليها من رصاص، هي شجرة كثيفة الفُروع، شجرة تضرب بجذورها في أرض الأجداد..
«لو يذكر الزيتون غارسه
لصار الزيت دمعا!
يا حكمة الأجداد
لو من لحمنا نعطيك درعا!
لكن سهل الريح
لا يعطي عبيد الريح زرعا!
إنا سنقلع بالرموش
الشوك والأحزان قلعا!»(عن الصمود).
فكم يلزم من تضحية بالأعزّ والأرقّ (الرموش) في ليل الحُبّ لتجذير الأحزان الشائكة ومَدّ جِسْرٍ إلى معبود القلب؟!
القلبُ لِمَن يعبده كالشجرة..
الشجرة الأُمّ تحت فيئها يلتفّ الصغار، فهلاّ تَصَوَّرْنَا حنينَهم إن هم عنها نَأَوْا:
«أقول للمذياع... قُلْ لها أنا بخير
أقول للعصفور
إن صادَفْتَها يا طير
لا تَنْسَني، وقُلْ: بخير
أنا بخير»(رسالة من المنفى).
أما هو، فهو الفراشة الزاهية التي نَقَلَتْ رحيقَ العشقَ من زيتونة إلى أخرى، فراشة بجناحين تَكُونُهما أصابعه التي تنسج على منوال الحروف حريرَ الكلام..
«لو كان لي حقل ومحراث،
زَرَعْتُ القلبَ والأشعار
في بطن التراب...» (صوت وسوط).
الحَرث ممحاة. والغَرْسُ كتابة ثانية. وعاشقُنا الرقيق لن يَجِدَ أفضل من القلب بذرةً يتعلق بحبلها السري الجنينُ النباتي (الحُبّ) ليَطِيبَ الحصادُ وتصفو النفوسُ ويتبين النهارُ من ظلمة المشاعر التي تَغَذَّتْ على الجفاء والكراهية والقسوة..
يا الله!
وتُرابُها (أرضهم) ما أحلاه! ما أحلاه حين تَعْبُرُهُ قدماه (عاشقها) وتَزِنُه عيناه بميزان الحُبّ الذي يجعل كل حَبَّة تراب تتعلق بالهدب وتعزف على أوتار القلب.. قليل عليها وعلى عاشقها الوفي ومن سبقوه ومن لحقوه أن يُكَرَّموا، ولْيَكُنْ أجلّ التكريم باقة حروف..
أتحدث عن عاشقها هي معبودة الجماهير:
«عيونك شوكة في القلب
توجعني... وأعبدُها» (عاشق من فلسطين).
و أُمّهم فلسطين في عينيه هو محمود درويش:
«عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ
الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى
فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ (على هذه الأرض).
هذا محمود، يقول لهم بلغته الخاصة: تَعَلَّمُوا الحُبَّ مني (يا عصافير)، تَعَلَّمُوا أن تُحِبُّوا الشجرَ والحجرَ، تعلَّموا ألاَّ تنحنوا للمطر، حتى لو كان مطر الرصاص، وتعلموا أن يحب أحدكم الآخر قبل أن تحبوا هذا الكبيرة الذي تسمى الأرض الوطن..
مَنْ منا لم يطرب لإيقاعات تمسح عن معشوقتهم غبارَ النسيان كلما تصاعدت رائحة الخبز، الخبز العربي المستشيط، المستشيط غضبا، والمستشيط حسرة؟!
إنه الخبز وما أدراك ما الخبز المستشيط تباعدا بينه وبين أفواه تحنُّ إليه كما إلى عاشقٍ تحنُّ أُنْثَاه:
«أَحِنُّ إلى خبز أمي» (إلى أمي)؟!
الأُمُّ!
الأُمُّ شجرة ودفء وخبز..
جَرِّبْ أن تَرحلَ ما شئت (طوعا أو قسرا) إلى أي هامش أو مركز، فلا بد أنك سَتُمَنِّي نَفْسَك بعودةٍ تَأْملُ أن تكون ميمونةً، وإن ظلت عودةً مؤجلة إلى حيث يحلو الظل والدفء والخبز مما لن تجدَ رائحتَه بعيدا عن مسقط رأسك حيث تنتظرك أصابع دافئة لتمارس طَقْسَها الأَرْوَع وهي تَفْرك شَعْرَك وعنقك وكتفيك بينما تتوسد أنت ركبةً من الجَنَّة..
«تودُّ العين لو طارتْ إليك
كما يطير النوم من سجني
يود القلب لو يحبو إليك
على حصى الحزن
يود الثغر لو يمتصُّ
عن شفتيك
ملحَ البحر والزمن
يود.. يود لكني
وراء حديد شباكي
أودع وجهك الباكي» (لوحة على الأفق).
بعيدا عن رائحة الخبزِ الطيب تَغدو الحياةُ نَفَقاً، يعوي فيه الليلُ، ويصرخ الخواءُ، لكن الشاعر يُوثِرُ الانتظارَ ويظل يُرَبِّي الأملَ:
يا دامي العينين والكفنين!
إن الليلَ زائل» (عن إنسان).
صحيح أن ليل النفق طويل، ليل الحصار طويل، ليل القهر طويل، لكن الصبح طالع لا محالة، ومعه تُشرق شمس الحُبّ التي تَلمُّ شملَ العصافير..
محمود درويش يحاكم زمنَ القسوة والبغض، والتهمة تواطؤ على قتل الحُبّ واغتصابٌ للأرض:
«فاخرجوا من أرضنا..
من برنا.. من بحرنا..
من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا
من كلّ شيء،
واخرجوا..
من مفردات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة...» (عابرون في كلام عابر).
ليتها الأرض كانت حقيقةً امرأة لتعرف أن هناك عاشقا متيما في نقطة ما على خريطة الكوكب الْمُطْفَأ المشاعر على امتداد أنفاس ونفوس.. قلب العاشق يُقَبِّلُ الأرضَ تحت قدميه (وعن بُعد) ويحترق كشمعة تذوب ذوبانا لتَبْصم دموعه الملتهبة حروفها على حُبِّه الخالد الشاهد على انتظاره لزمن الوصل..
«هل يحس المحبون أني
لهم
شرفة... أو قمر؟
إنني أنتظر...» (هكذا قالت الشجرة المهملة).
في الانتظار ما هو أكبر من الوعد والعهد.. في الانتظار الأمل، وأمل محمود كان دائما أن يرتمي في حضن الحبيبة التي لا تَجْرَح ولا تَصْفق البابَ في وجهه: المرأة الأُمّ الأرض الطيبة..
«خذيني، إذا عدت يوما
وشاحا لهدبك
وغطي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبك
وشدي وثاقي...
بخصلة شعر
بخيط يلوح في ذيل ثوبك...
عساي أصير إلها»(إلى أمي).
هل نصدق غياب طائر الجليل الْمُحَلِّق محمود؟!
هل نصدق انطفاء العشق في بحيرتي غمازتيها أنثاه الخالدة؟!
هل نصدق انطفاء الحنين في غابات عيون عصافيرها؟!
محمود يا أنتَ، يا مَن علَّمهم كيف يُضيء الغضب وكيف يُزهِر الحزن وكيف يُثْمِرُ الحجر.. يا مَن علَّمهم كيف أن الحَرف قِبْلة، كيف أن الحَرف قُبْلة نطبعها بحب على جبين أو يد مَن نُحِبّ، كيف نُدافع بالحُب، كيف نموت من أجل الحُب، كيف أن الأرض تستحق كل الحُبّ.. أنتَ في القلب..
ودُمْتَ أغنية حُبٍّ لا ينضب دفئها، ووردة تُعَطِّرُ كتابَ ذاكرة المقاومة العربية، وقُبْلَةً يزفها غُصنُ زيتون وحمامة إلى التاريخ، كيف لا وأنتَ نتاج التاريخ الذي لن يُعيدَ نَفْسَه.
copy short url   نسخ
07/01/2017
3102