+ A
A -
ما أقسى الحياة عندما تُحَوِّلُ الواحدَ مِنَّا إلى شمعة تَبكي وتحترق حُزنا على مَن غادروا قبل أن تتأهَّبَ النفسُ لموكب فراقِهم.
رفقا بنا يا عام 2017، كُنَّا قبل ساعات نمني نفوسنا بعطرك وورودك، فإذا بكَ بعد ساعات من وصولك تخطف روحا عزيزة كانَتْ آخِرَ ما تبقى من ذلك الجيل الجميل الذي لا يَعْرِفُ كيف يَقسو ولا كيف يَجْرَح..
ليتكَ تمدَّدْتَ قليلا يا 2016 لِتُمْهِلَنا بعضَ الوقت حتى نَشْبَعَ من آخر نخلةٍ بَلَحُها قُبُلات وعناق، ليتكَ نِمْتَ قليلا حتى تنامَ فيكَ الرغبةُ في أن تَحملَ معكَ من نُحِبُّهم ولا نَقوى على توديعهم..
بعد ساعات من حلول 2017 يُهَرْوِلُ الموتُ لِيَنْتَشِلَ عزيزا يُعَلِّمُنَا غيابُه كالعادة كم كان حضورُه يَلِيقُ بنا، كم كان الدفءُ في عينيه يُدَثِّرُنا، وكم كانَتْ ابتسامةُ صَوتِه تُعيد إلينا بريقَ الأمل في حياةٍ لا تَأْبهُ لأوجاعنا..
وهذا العزيز الذي أَذْكُرُه أكثر مما أَذْكُرُ جدتي (التي بكيتُ بحرقة يوم فارقَتْنا) كنتُ أناديه بأحبّ الأسماء إلى القلب منذ استوعبَتْ عينايَ حُضورَه..
كيف لا يَعصفُ بي غيابُه بلا رجعة هو الذي كان يَهْتَمُّ بي اهتمامَ جدتي بي، بل كان يَتَفَقَّدُ أحوالي كما يتفقد أحوالَ بناتِه وكان يُدَلِّلُني بمناداتي «لَلاَّ سعاد» أمام الملإ..
أكثر عناقٍ استمتَعْتُ بدفئه كان عناقُه، وأصدق قُبُلاتٍ تُوِّجْتُ بها كان له حصة فيها، وأحنّ الأحِبَّة عليَّ كان هو واحد منهم..
جاءني بنصيبي من ماء زمزم وتمر الأرض المباركة وسبحةٍ ولم ينتظر أن أذهبَ إليه هو العارف بطقوسي وعاداتي.. أَتَفَقَّدُ الآن سبحتَه، هذا كل ما تبقى لي منه، أَتَفَقَّدُ سبحتَه لِأَشمَّ رائحةَ الحُبِّ، رائحتَه، وأَلُوم نفسي لماذا لَمْ.. ولَمْ.. ولَمْ..
شريط الذاكرة يمتدُّ أمامي.. أستقبلُه بباب الحديقة، يُمازحني ويتودَّدُ إليَّ، أُخبئ له الحلوى وما يَطيبُ له، يتغزَّلُ دائما بكوب الشاي أو فنجان القهوة الذي أُحَضِّرُه لَه مع ما يشتهي من كعك..
للجلسة العائلية في حضورِه طعم ونكهة.. شهريا يكون هو أول الوافدين لمجلس القرآن والمديح، ودعواته مطر يروي الأرض العطشى..
عندما ينتهي عمرُ اللقاء الذي كان يجمعه بنا كان يترك الكُلَّ ويبحث عني، مرة يجدني في المطبخ، مرة يجدني أستعد للخروج، لكنه لا يغادر دون أن يُطَوِّقَني بين ذراعيه وأُطَوِّقه ولا ندري مَن مِنَّا (أنا وهو) كان يأخذُ البرَكةَ من الآخَر..
أفتحُ له البابَ ليلتحق بصفوف الْمُصَلِّين في المسجد وأسأله الدعاء، وبمجرد عودته أستقبله بـ «تقبل الله».. كالمعتاد بعد انتهاء الزيارة أكون أنا آخر مَنْ يُودِّعُه ويُغلق بعد رحيله البابَ منتشية بما ينثره حولي من ورود الرِّضَى..
أتذكر كيف كان يُؤَمِّنُه أبي وأمي علينا عندما يُجْبَران على السفر ونحن صغار، فيَسهر على راحتنا ويُظَلِّلُنا بحُبِّه.. بل كان يخاف عليَّ عندما أَخْرُجُ لِأَعودَ بأخي من المدرسة، فإذا بـه يرافقني..
ما أقساكَ يا 2017 وأنتَ في أول يوم حَلَلْتَ تَسْرِقُ منا زهرةً وتُلْهِبُنا دموعا لا تُخمِدُها سوى الحُمَّى!
نَافِذَةُ الرُّوح:
«الوَردُ يبكي».

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
05/01/2017
2272