+ A
A -

صباح الحَرف.. مساء الحَرف..
طَيْفُ أنثى بعيد استوقف قطارَ زمن سنان واحتلَّ عَربةَ.. طيفُ الأنثى يُرْهِقُ ذاكرةَ سنان، فله حضور طاغ يجعلنا من الوهلة الأولى للقراءة نحلب غيمةَ الحنين:
«الشعر تلفت الروح إلى اللحظة الهاربة» (سنان المسلماني، مُزْن).
هذا النص القصير حَلَّ محلّ الإهداء، فهل يريدنا سنان أن نفهم بأنه يُهدي مجموعته الشعرية إلى الفن الرقيق الذي جعل إحساسَه يتفتَّح وردُه ويتوهج نوراً ويَنْدَى بأرقّ المعاني التي ينحني لها المتلقي الذَّوَّاق لِسُكَّر الكلمة كما يَطْربُ فَمُه لتفاحة لِتَوِّها غادَرتْ شجرتَها مؤذنة باكتمال النضج؟!
وانظروا ماذا يفعل سنان هنا في نصه الموازي السابق الذكر! في خطوة أولى يَرسم لنا سنان حُدودَ مفهومه الخاص للشعر (الشعر تلفت الروح..)، وفي خطوة ثانية يجعلنا من تعريفه للشعر نستنبط قوةَ جاذبيةِ عقد الزمن المنفرطة حَبَّاته. إنها سطوة اللحظة الهاربة (..إلى اللحظة الهاربة).
لن نستحضرَ عُدَّتنا السيميائية لِنحلل الدوال اللغوية التي وظفها سنان ليربط بها أول اتصال مع القارئ، وإنما نقف عند قراءة عابرة تَقول شيئا واحدا، تقول إن الأمس الذي احتفى بطيف الأنثى (الذي مَرَّ وما مَرَّ) لا يَخْرُجُ عن كونه لحظة هاربة.
بيتُ القصيدِ اللحظةُ الهاربة. فَهَلاَّ قُلْتَ لنا يا سنان ما الذي يَدْفَعُكَ إلى أن تَخْتَزِلَ عُمرا مَرَّ بثقل سنواته في مجردِ لحظةٍ إن لم يكن شوقُك جارفا إلى استعادة أيام غادَرَتْ بسرعة الضوء وتركَتْ لكَ حُمولةً موحِشة من الحنين الذي يَعتصر قلبَك التوَّاق؟!
وهلاَّ شرحْتَ لنا كيف لا يتصبب قلبُك عشقا وتعلقا بدفاتر الأيام التي سقطَتْ من حقيبة زمنك إن لم يكن إحساسُكَ بالفقد يُشعل غابةَ قلبك الذي يتآكل بمعدل احتراق جَمْرَةٍ مُوَلْوِلا (قلبك) لخروج زمن العطاء عن طَوْعِك، زمن العطاء الذي يتقاطع مع زمن الفقدان؟!
ما كُنْتَ يا شاعرنا لِتَصِفَ زمنَ مَجْدِ قلعةِ القلب باللحظة الهاربة لو لم تَكُنْ في دخيلة نَفْسِك تَشعر بما تَشعر به شَظيةٌ فارقتْ شُعْلةً!
لكن انتبهوا أعزائي، فالشظية المعادِلة هنا لقلبٍ مَنْسي ليست هي مَن فارَقَتِ الشعلةَ، إنما العكس هو الصحيح.
سنان ليس هو مَن حمل حقائبه وغادر قطارَ الأمس، لا. سنان ما عاد في حاجة إلى الانتباه إلى حقائبه لما وَجَدَ طيفَ الأنثى يُسارع إلى أول عَرَبَةٍ تُقابِلُه من قطار الزمن، وكأن الطيفَ تُلاحقه عيون متلصصة تَعُدُّ عليه أنفاسَه سارقةً لفرحةِ لقاءٍ لم يَكتملْ بريقُه وحابسةً لهواءٍ لم يَتصل طريقُه لِيُحَلِّقَ بِذات الشاعر في سماوات اندماج الروح مع الروح..
ولْنُقَدِّرْ موقفَ الجاثم في مكانه بعد أن لَفظَه موكبُ الزمن!
ألهذا سَمَّاها سنان اللحظة الهاربة؟!
كيف لا تَكون هاربة وهي تَهْرب بحُلمه الكبير، تَهْرب برغباتِه المؤجَّلة، الرغبات في الالتحام باللحظة واستثمارها قبل أن تنفلت كما ينفلت الماء من بين أصابع تحاول القبض عليه!..
ويأتي نص الشاعر الكردي شيركو بيكه الذي يستهل به سنان الصفحة الأولى من مجموعته لِيَفْتَحَ عيوننا بما يكفي على حقيقة الأنثى الهاربة من شُرفة الأمس، لكن أشياءَها مازالت مُلقاةً على رصيف الشِّعر بمنتهى الفوضى الخلاَّقَة:
«لن يَكون العاشق بليغا
لأن نارا تتأجج في أعماقه» (شيركو بيكه).
وينتصبُ السؤال علامةَ تَعَجُّبٍ: ما الداعي إلى نص شيركو ليستحضره سنان لو لم يكن لسيرة العشق محل من الإعراب رَفْعاً ونَصْباً وجَرّاً؟!
فَمَن رَفَعَ حُلمَ سنان عن أرض التحقق والتجلي؟!
مَن نَصبَ لانتظاراته مصيدةً لا تليق بِتَوْقِ عاشقٍ ملحاح؟!
مَنْ جَرَّ أَمْس الشاعر إل غير مجرى نَهْرِ حنينه؟!
بل مَنِ الجارّ ومَن المجرور؟!
أكان سنان مَن جَرَّ الذاكرةَ إلى مربط اللحظة الهاربة؟!
أم كانت اللحظةُ الهاربة من جَرَّتِ الشاعرَ بحبل الذاكرة؟!
يَقولها سنان ويكررها:
«لم يبقَ إلا أنتِ» (سنان المسلماني، مزن).
فمن تكون هي؟! والأهم، لماذا رحلت ونأتْ بها مسافاتُ الوجد؟!
وبعد رحيل من تُحِبُّ وتَهوى هل يبقى للحياة طَعم وهل تستسيغ كأسَ الذكرى؟!
«شددتُ الماءَ بحبل ظني
فضَلَّ الماء في صحراء حزني» (سنان، مزن).
طبعا للمعادلة حسابات أخرى.. وحين تتبخر مياه بحيرة الدفء التي تسبح فيها مشاعرك وعيون قلبك ستتسع مساحة الحزن، والحزن رمال متحركة تبتلع كل ما يعترض قدميها..
ماذا في وسعِكَ سوى أن تَتَكَتَّمَ على أسرار قلبكَ البئر السحيقة التي تَدْفن فيها لسانَك حين يُصْبِحُ البوحُ سفينةً مُعطَّلة لا تَقودك إلى مرفأ، بل الأسوأ أنها تَغْرِق بك دون أن تفطن أنتَ إلى أنها تأخذك إلى القاع، قاع الذكرى، وقاع الذكرى قمقم يحتاج إلى مارِدٍ ليَعود بِكَ إلى الواجهة وفي كَفَّيْكَ شفتاك ولسانُك.
اللحظةُ الشعرية وَمْضَة خاطفة، وسِنان الراوي يُقَلِّبُ الصفحاتِ تباعا في دفتر الذكريات..
بين الرحيل والعودة مَسافةُ أَمَلٍ:
«حين تعودين إليَّ
يعود الماء نشوانا إلى حلقي
تُعْشِبُ حقول الرضاب» (سنان، مُزْن).
بين البقاء والرحيل مسافةُ عمرٍ طَحَنَهُ الزمنُ. والزمن سِكِّير ثَمِل:
«أما الزمن السكران
فلَوَّحَ للشمس الغاربة عبر النافذة» (سنان، مزن).
إنها ثمالة الزمن الذي يترنح وفي يده كأس معاناتنا يتلذَّذُ بملئها عابثا بأوجاعنا فتطول خطوتُه وتَثقل ساقاه إن لم تحملاه.
الزمن يأخذ منك أجمل ما عندك من روائع عزيزٍ وغالٍ إن لم يهددك في أحسن الأحوال بوضعها في قبضته، فتقف أنتَ على قدم واحدة وتُغمض عينا وتفتح أخرى.
وعندما تتجرد من كل ما يُعطيك وجودا وهوية لا تجد أمامك إلا أن تُعاقرَ الحَرفَ:
«أراوح بين ذا الْمَدِّ وذا الْمَدِّ
صهيل الحرف في صدري بلا حدِّ» (سنان، مزن).
فمتى يصهل الحرفُ؟! أُجِيبُكَ: عندما تُدْمِنُ الوجعَ. وكلما تضاعفَتْ جُرعات الوجع والحزن امْتَدَّ بساطُ الحرفِ قدامك ونلْتَ وجاهةً وحظوة قلّ نظيرهما..
«حبيبتي
أحدث الصبح عنكِ حين ألقاهُ
حديثَ مذهولٍ
فأرخي حبل ألفاظي» (سنان، مزن).
أهو ذهول عاشقٍ مُحِبٍّ هذا الذي يدعوك فيه غياب تحقق الاندماج الروحي إلى الإبحار في الرسم بالكلمات لاستعادة مَجْدٍ لم يَدُمْ وترميمِ صرحٍ عَجَّلَ جبروتُ الزمن بتقويضه؟!
في غياب الطيف، يصبح الماضي مادةً قابلة لتدريسها لطالبٍ فاشلٍ يسمى الصبح الجاثم عند رصيف الحضور من باب استعادة بريقٍ قديمٍ انحنى لعاصفةِ سَديمٍ..
لكن ماذا بعد السديم؟! ألا تُبَشِّرُ أحوالُ جوقةِ عصافير القلبِ بِأَوْبَةٍ آمنةٍ لِمَنْ يُحِبّ؟!:
«حين أتيتِ من هناك
كانت روحي مُعَلَّقَة على جِدار غربتك
بمسمار أوبتك» (سنان، مزن).
أوووه! الرجوع كون باذخ فلماذا يختزله الشاعر في مسمار؟!
أليس هذا يُفسِّر الأمرَ على أنه بِلا رجعةٍ هذا الفِرار؟!
ألا يتقاسم الشاعرُ مع الطيف الهارب الغربةَ نفسَها؟!
فماذا تَبَقَّى بعد هذا للروح الهاربة منها المحبةُ:
«تحقق كيلا تفلت الروح
من سحر المحبة» (سنان، مزن)؟!
الغريب أن طيفَ الأنثى كلما نأى نأَتْ معه ملامح المدينة.. فهل هجرَتْها العصافير فأقفرتْ برحيل مُعَمِّرِيها بالحُبّ والشَّدْوِ العَذْب؟!
«مثل الموت هذي المدينة
هذي الرهينة
تستفز الشهوة
والكتابة» (سنان، مزن).
حنين صارخ إلى تاريخ مدينة طَمسَ معالِمَهُ الغيابُ.. المدينة الميتة جُثَّةٌ بعد أن هاجَرَتْ أسراب الحياة على سفينة الزمن الذي جرَّ أذيالَه حالفا أَلاَّ يَعود.
أهذا ما جعل الشاعرَ يتساءل أين المدينة وأين أهلها؟!:
«هذي المدينة الْمُهَشَّمَةُ القلب
إلى أين سار رَكْبُ الأرواح!» (سنان، مزن).
ألا نرى أن طيف الأنثى انتشلَ الزمنَ والمكانَ، وترك للذات تمزقاتِها وتشظياتِها؟! ففي أيِّ عالَم ممكن ستَسْبحُ الروحُ، وبأي وجه ستَستقبلُ الصبحَ:
«ما بين الساعات الأولى
من فجر اليوم
والساعات الأولى من فجر الأمس
كانت روحي تتفتح مثل زهرة
على سرير الوقت» (سنان، مزن)؟!
يا لهذا الجنون الذي يقترفه الزمن في خطه التراجعي!
إذا كانت الروح تتفتح من بداية اليوم إلى نهاية الأمس، أليس معنى هذا أن الشاعر يوحي بالعكس كليا؟! أليس معنى هذا أن وردة الروح تذبل من الأمس إلى اليوم؟!
ذبولُ الروحِ هو الوجه الآخر لذبول وردةِ الحُبّ:
«هل تذكرين الحُبّ الذي كنتُ
أدفقُ في ساعات الوجد والخيبة» (سنان، مزن).
كأن الحُبَّ مرهم يُطَيِّبُ الجراحَ.. بالحُبّ تتسع بركةُ الشغف، وبالحُبّ نُخَفِّفُ الخساراتِ ونُلَطِّفُ جَوَّ الخيبةِ..
وبرحيل عصفور الحُبّ الطليق تشتعل الذاكرة. الذاكرةُ جَلاَّد، وعذابُها سوط:
«عذبني صهيل الصور الراقدات على الأسى
وقلبني على جمر المفردات» (سنان، مزن).
فأي ممحاة تقوى على محو كتابة الذاكرة؟! ويا لها من كتابة لا تستثني شيئا حتى القبلات المستعصية الهاربة مع ضوءِ الأنثى إلى سَكَنٍ آخر:
«في بعض الليالي الحزينة
أشم رائحةَ القبل التي مَضَتْ
إلى أَنْفٍ آخر» (سنان، مزن).
حين يغيبُ الضوءُ، ما يُجْدِي الظِّلُّ نَفعاً؟!:
«في الظل
ينمو الإنسان الظل
تورق أغصان الروح
وتخضل بندى التلاشي» (سنان، مزن).
ولْنَنْظُرْ إلى هذه الصور الصادمة التي يتكئ عليها الشاعر! أيعقل أن تُورقَ أغصانُ الروح بغير الألم حين تمعن الروحُ في التلاشي؟!
أليس هذا ما يؤدي إلى تراكم ثقوب الروح؟!:
«غابة الحجارة تلك الممتدة
من القلب وحتى البحر
من البحر وحتى القلب
صندوق من برسلان مُحَطَّم» (سنان، مزن).
كل ما يُحْمَدُ للذاكرة هو عَبَقُ الأحلام الذي يفوح من الألفاظ التي تشتعل برماد الأمس.. وهنا مربط الحنين إلى مراعي الطفولة:
«بهية سحائب الطفولة
في التماعات ذاكرتي الماكرة» (سنان، مزن).
الحنين إلى الماضي بشكل عام يُرْهِقُ روحَ الشاعر:
«فسلام على الوقت الْمُراق
سلام على الأمنيات
سلام على الثواني العليلة» (سنان، مزن).
الحياة ظل.. الرغبات لم تغادر طفولتَها.. والهوى قلم يكتبُ قصيدته.. الأمنياتُ محرٍّكاتُ عَرَبَةِ عمرٍ مع وقف التنفيذ، الماضي تُشَيِّعُ جنازتَه طيورُ الليل بحثا عن الزمن الضائع لولا جِسر الحنين.. واللحظة واقع مريض يحتاج إلى يَدٍ تُداويه:
«أنا المسكين
ليلي ليل الثواني والأماني المطفأة» (سنان، مزن).
فمن أين للعمر بتلك التي يستظل الصبحُ بضوء عينيها:
«يقوم الصباح مثلك إلى
فتنته، طيوبه..
ويستظل بوجد عينيك» (سنان، مزن)؟!
لكم أن تلاحظوا أعزائي كيف أن على مدار الحرف تمتد مساحةُ بوحٍ تَنتصبُ فيها أشجارُ الحنين التي يزفّ ثمارَها القلبُ إلى القلب..
الشاعر المعذَّب بحنينه يبحث عن إعادة تعمير روحه في ظل خذلان الزمن له وعبثه بخيوط روحه كما تعبث أصابع جاهلةٌ بأوتارٍ لا تُجيدُ العزفَ عليها، فيكون اللحنُ بالتالي مُشَوَّها ومَمْسوخا..
ألهذا صرخَ الشاعرُ صرختَه المدوية في سماء ليلِ المشاعر:
«مذبوح
مجبول للتي أهوى
وباب الليل مرصود» (سنان، مزن)؟!
إنها رصاصة، رصاصة قاتلة تَطْرب لها الجوارح ويُصَفِّقُ لها القلب.. رصاصة تُسمى الحُبّ، الحُبّ الذي يَرقص له القلبُ في زمن اشتعاله، ويجثو خائر القوى والأنفاس في أوان انطفائه:
«عوسجة مثلي تَنوء بالحُبّ» (سنان، مزن).
ربما عبَرَتْ رصاصةُ قلبِها (الأنثى) من هناك أو من هنالك شاقَّةً طريقَها إلى قلبِ شاعرٍ مُرْهَفٍ فَأَسْقَطَتْ قُبَّعَتَه.. هل هذا ما أصابَ الشاعرَ وألقى به في بحر الحنين؟!
لِنَتَأَمَّلْ آخِرَ نَفَسٍ اختلَسَهُ الشاعرُ معترفا بعُبور نهرِ الحُبّ قبل أن تنطفئ أنفاسُه:
«كالحُلمِ أنتِ
كالمحارة التي احتضَنَتْ لمسةَ الحُبّ» (سنان، مزن).
إلى وسادةٍ ناعمةٍ ولحافٍ دافئ يَحنُّ إليهما رُعاةُ الإحساسِ في رُبَى الشعر، حيث يَطيبُ للروح أن تُطارِدَ طَيْفَ غيمةٍ منفلِتةٍ، يَأخذُنا شاعرٌ مُلْهَم يرتق ثُقوبَ الروح بخيط الحنين. إنها تُمْطِرُ.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
31/12/2016
3846