+ A
A -
من تجارب التاريخ البعيد والقريب، ارتبط اندلاع حرب عالمية أو التهديد بإشعالها بأحداث الاغتيالات السياسية، وذلك لما تمثله هذه الأحداث من مساس صريح لا يمكن التهاون معه بالسيادة والكرامة الوطنية والأمن القومي للطرف أو الأطراف المنخرطة في صراع يتصف بالشمول من حيث تنوع مصادره وتعدد أطرافه وقابل للانفجار إلى حد الحرب العالمية.
في 28 يونيو 1914 قام طالب صربي يدعى خافيرلو برينسيب باغتيال ولي عهد النمسا فرانز فردينا وزوجته خلال زيارتهما لسراييفو مما جعل النمسا تعلن الحرب على صربيا ثم أعلنت روسيا القيصرية مناصرتها لصربيا ضد النمسا، بينما قامت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا، وهكذا اندلعت الحرب العالمية الأولى. وحديثا نسبيا وقف العالم على رأسه عندما وقعت أزمة الصواريخ الكوبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق عام 1962 عقب عدة محاولات فاشلة من جانب الولايات المتحدة لإسقاط النظام الكوبي، وكذلك محاولة اغتيال كاسترو. وعندما وصلت أزمة البرنامج النووي بين إيران والولايات المتحدة (ومعها الدول الأوروبية) إلى طريق مسدود قبل توقيع الاتفاق النووي 2015. وكذلك عندما وقعت أزمة تغيير الحكم الموالي لروسيا في أوكرانيا عام 2014 وهروب رئيسه خوفا من الاغتيال، والتي على إثرها تدخلت روسيا عسكريا وأعادت بالقوة القرم إلى أراضيها.
في واقعة اندلاع الحرب العالمية الأولى اعتبرت النمسا اغتيال ولي عهدها حادثا مهينا لكرامتها الوطنية التي تعد الوجه الآخر لسيادتها. والأمر ليس بعيدا في حالة السفير الروسي فيما يتعلق بالمساس بالكرامة والسيادة الوطنية ومن الطبيعي أن يصدم مشاعر الروس ويفجر لديهم براكين الغضب والرغبة في الثأر إلى حد القبول بالانخراط في حرب عالمية، مثلما حدث في واقعة اغتيال ولي عهد النمسا قديما.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصف حادث الاغتيال بأنه «استفزازي». والكلمة في حد ذاتها تعني أن الرئيس الروسي يؤمن بأن هناك طرفا أو أطرافا تتحدى بلاده وتريد أن تجرها إلى أن تنخرط في معركة أو حرب كرد فعل متوقع أو منتظر منها، كما تعني أنه من الطبيعي أن ترد روسيا بموقف كهذا، حيث ليس من المتصور أن الرد على الاستفزاز هو الصمت أو الخنوع.
إلا أن المشهد لم يتكرر برغم وجود قدر من التشابه بين حالة ولي عهد النمسا وحالة السفير الروسي سواء فيما يتعلق بالسبب المباشر (اغتيال شخصية رفيعة) أو فيما يتعلق بالأسباب غير المباشرة (الظروف المهيأة للحرب) مع الأخذ في الاعتبار تغير الزمان والمكان. فمنذ اللحظة الأولى لاغتيال السفير الروسي حرصت كل من موسكو وأنقرة على أن لا يؤثر الحادث برغم أهميته وخطورته على العلاقات الثنائية بينهما، حرصا منهما على المصالح التي تحققت بينهما في الملف السوري بكل أبعاده الإقليمية والدولية.
ولكن الأسباب غير المباشرة ألقت بظلالها وجعلت الباب مفتوحا أمام روسيا للرد، ليس على طريقة شن الحرب العالمية الثالثة، وإنما على طريقة حروب الإنهاك والإضعاف للخصوم، وهي حروب مفتوحة وممتدة زمنيا. فمن الواضح أن كلا الطرفين المباشرين في واقعة السفير الروسي متفقان على أن هناك أطرافا خارجية دبرت الواقعة أو مستفيدة منها على الأقل وعليها أن تتوقع تعرضها لمثل هذا النوع من الحروب إلى أن تقتنع روسيا بإغلاق ملف اغتيال السفير. حديثهما عن التعاون في القضاء على الإرهاب ليس موضع شك ومن ثم لا يمثل جديدا. ولكن المسكوت عنه هو ما يعنيه الجانب الروسي من عبارة «القوى التي تقف خلف عملية الاغتيال». هذا الجانب لم يتعجل في توجيه الاتهامات ولم يسارع بتقبل الرواية التركية التي ركزت على ضلوع جماعة جولن في الحادث، ولكنه أيقن أن نفوذه في الشرق الأوسط ليس آمنا، وأن مراكز صداقاته الجديدة لم تعد آمنة أيضا، والمعنى أنه يعيش أجواء الانخراط في حرب عالمية، ولكن بآليات وأشكال مختلفة عما فعلته النمسا قديما.
copy short url   نسخ
31/12/2016
4370