+ A
A -
عندما أعلن دونالد ترامب شعار «أميركا أولا»، أساسا لسياسته الخارجية، كان التساؤل العاجل لدى الكثيرين هو: هل يصنع ترامب صياغة مختلفة للمنظور الأميركي، في التعامل مع القضايا الدولية؟.
ومن يومها، ثم بعد فوزه بالرئاسة، أصبح ترامب وأفكاره، وتوجهاته السياسية، محل اهتمام متصل من المحللين السياسيين في أميركا. وإن كان بعضهم يرى أن ما نطق به ترامب يتفق كلية مع التقاليد الراسخة والقديمة لرؤية أميركا لسياستها الخارجية، منذ سنوات الحرب العالمية الثانية.
بل إن هذه الرؤية، لم تخرج عن مواريث سياسية في أميركا، وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا إذن هذا الانزعاج البالغ من النخبة السياسية؟. وكانت الإجابة لدى البعض أن ترامب خرج عن سياق الخطاب السياسي المعتاد للنخبة، الذي يقول أشياء ويخفي أشياء أخرى، ويحرص على أسلوب الطمأنة للحلفاء والأصدقاء التقليديين في مناطق العالم الإقليمية، وأولها الشرق الأوسط، دون أن يفصح عن توجهات تتعارض مع مصالح هؤلاء الأصدقاء التقليديين، وربما – أيضا – كانت شخصية ترامب العفوية، أو ما يراه البعض من انفلات عباراته، هي التي جعلته لا يستطيع أن يسيطر على خطابه السياسي، وربما أيضا لأن الذين أيدوه وأعطوه أصواتهم، كانوا غاضبين من النخبة السياسية، صانعة القرار السياسي لحقب طويلة.
ويشرح البروفسور أناتول ليفين في مقال له بمجلة فورين أفيرز هذه المفاهيم، بأن مفهوم «أميركا أولا» لا يختلف كثيرا عما يعرف من جانب المؤرخين الأميركيين، بـ «العقيدة الأميركية» AMERICAN CRD، وهي التي شرحها عدد من المؤرخين منهم ريتشارد هوفيستادر بقوله: إن الأميركيين يرون أن بلادهم ليست في حاجة لأن تكون لها عقيدة، كبقية الدول، لأنهم مقتنعون بأن أميركا في حد ذاتها هي العقيدة.
وهو وصف غائر فيعمق التاريخ، تحدث عنه المفكر الأميركي دي توكويفل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
وقال إن الأميركيين بشكل جماعي، متفقون على المبادئ العامة التي ينبغي أن تحكم المجتمع الإنساني، وهو ما يتفق مع مقولة ان العقيدة والقوة معا استحكمتا في العقل الأميركي.
وهو تفكير عبرت عنه مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس بيل كلنتون، في التسعينيات بكلمة أن أميركا أمة لا غنى عنها IMDIS PENSABLE MATION وانعكس هذا المعنى في كتاب هيلارى كلينتون خيارات صعبة HARD CHAISES. وهو ما عبرت عنه أوصاف أخرى مشابهة مثل أن أميركا دولة استثنائية.
وأعاد جورج دبليو بوش ترديد هذا المعنى عندما أعلن عام 2002، إن قضية أمتنا كانت دائما أكبر من خطوط دفاعاتنا، وأننا نقاتل، ودائما ما قاتلنا، من أجل سلام عادل.. سلام لصالح الحرية الإنسانية، وهي المعاني التي ذكرها البروفسور ليفين في مقاله القيم.
فما الذي يمكن أن تختلف فيه سياسة ترامب الخارجية، عن مكونات هذا التراث الفكري والسياسي، الكامن في العقل الأميركي، خاصة وأن هناك ثوابت تاريخية تمثل مصدر إلهام للسياسة والاستراتيجية لدى مؤسسات الدولة، منها ما خلفه لهم المؤسسون الأوائل للدولة، وما ينظر إليه باعتباره من المقدسات، أيضا ما يعتبره الأميركيون من أن قيادة أميركا وهيمنتها على العالم، ليست فقط من أجل أهداف أميركية، لكنها أيضا – ومن وجهة نظرهم – لصالح البشرية، بل إن إدارة السياسة الخارجية تصل أحيانا إلى حد التمدد إلى حدود دول أخرى، وهو ما نطق به جورج بوش بعد إقراره استراتيجية الأمن القومي الجديدة في20 سبتمبر 2002، حين قال ان الأمن القومي لدول منطقة الشرق الأوسط، ليس شأنا داخليا، إذا كان يمس الأمن القومي الأميركي. وهذا المساس يكون بالطبع من وجهة نظر أميركية.
إن مبدأ التعامل مع قضايا السياسة الخارجية، التي تخص مصالح دول تعتبر تقليدية صديق لأميركا، وملتزمة حيالها بحماية أمنها إذا تعرضت لأي مخاطر، يبدو أنه يتم التعامل معه وفق مقولة ترامب نفسه «إننا لن ندخل أبدا في نزاعات خارجية، ما لم يجعلنا ذلك كأمة أكثر أمانا»، وهو قول يثير تساؤلات مثل: هل يطلق ترمب بذلك شيئا جديدا. لكن الإجابة تقتضى الرجوع إلى سياسة أوباما في ولايته الثانية وتأملها، حيث لا يبدو أن هناك خلافا بين الاثنين؛ لأن أوباما كان قد بدأ يتحلل فعلا من التزامات أميركا في الوقوف بجانب أصدقائها التقليديين، وهو ما تحدث عنه محللون أميركيون عديدون، وإن ظل نهج طمأنة الآخرين، لفظا وليس فعلا. لكن ترامب خرج عن نهج المواربة، إلى التصريح، بما تفكر فيه وتفعله أميركا. ولهذا تدافعت موجات الانزعاج من النخبة، لأنه يقول ما كانوا هم يتمسكون بأنه لا يجب أن يقال.
مع ذلك فإن ترامب سيجد نفسه مطالبا بإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية، لأنه سيكون محاطا من ناحية في الداخل بالملايين الذين انتخبوه وهم رافضون للنهج التقليدي للسياسة. ومن ناحية أخرى بعالم يتغير في الخارج، ولا تستطيع أميركا الانعزال عنه، أو الاصطدام به.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
30/12/2016
4755