+ A
A -
قد يتفق البعض مع فكره أو يختلف، إلا أن أحداً لا يُنكر أن الدكتور «صادق جلال العظم» من المفكرين السوريين المتميزين الذين أثروا الفكر العربي واجتهدوا لتحريك مياهه الراكدة بمؤلفات رصينة يبرز من بينها كتاباه «نقد الفكر الديني» و«ما بعد ذهنية التحريم». وبرغم تخطيه الثمانين، أمد الله في عمره، وبرغم الإحباطات العربية المتكررة، يظل الدكتور «العظم» من المفكرين المتفائلين. وقد وضح ذلك في مقال قصير منشور له قبل ثلاثة أسابيع نعى فيه سورياً آخر من أساطين التنوير هو الراحل «جورج طرابيشي»، الذي وصفه الدكتور «العظم» «بالنهضوي الأول».

وقد كان «طرابيشي» بالفعل نهضوياً مبهراً في تحليلاته غزيراً في مؤلفاته. كتب في السياسة والدين والثقافة والفلسفة والتراث والأيديولوجيا وكلها مجالات عجز العرب عن عمل اختراق واحد كبير فيها لسنين طويلة. كما شكل مزيجاً فريداً جمع بين السخط على الحالة العربية البائسة والتطلع إلى مستقبل عربي مشرق. ومن المحامد التي أشار إليها الدكتور «العظم» في تأبينه «لجورج طرابيشي» وقوفه الصارم ضد ما أسماه «العظم» بالادعاءات العدمية الرائجة عن الوضع العربي من قبيل «الانسداد التاريخي» و«موت الإنسان» و«انعدام التقدم» و«فناء الكاتب» وغيرها من المقولات التي تنتشر سواء بين المثقفين أو عوام الناس قاطعةً بأن باب الأمل قد أقفل أمام العرب ولم يعد هناك مجال لفتحه.

وكم هو جميل أن يبقى المرء متفائلاً واثقاً في أن العرب سيعودون من جديد إلى تيار التاريخ بعد أن غابوا طويلاً عنه معتقداً أن كل التوصيفات المحبطة لأحوالهم ليست إلا جملاً اعتراضية ستسحقها أفكار التنوير التي عاش ومات «طرابيشي» وكثيرون غيره من أجلها. لكن الحماسة التي أخذت الدكتور «العظم» وهو يؤبن زميلاً عزيزاً على نفسه لا تنفي أن الواقع سيبقى هو المحك للحكم على مثل هذه الادعاءات وإن كانت عدمية كما اعتبرها «العظم» أم أنها على النقيض صادقة وحقيقية كما صدقت في الماضي تتوافر كثير من الأدلة على أنها ستبقى صادقة في المستقبل المنظور على أقل تقدير.

لا يا دكتور «صادق».. «نهاية الكاتب» مثلاً ليست مقولة عدمية، فالكُتّاب العرب وصلوا إلى حالة مزمنة من الجفاف والتجفيف. كلماتهم حشو بلا طعم والكتابة التي يقدمونها مهما برعت ليس لها تأثير ملموس لا على السياسة أو المجتمع. نهاية الكاتب ليست مقولة عدمية وإنما عبقرية. ولو دقق الدكتور «العظم» فسيجد نفسه في طليعة من كانت تستحق كتاباتهم اهتماماً أكبر، لكنها بالرغم من قيمتها وأهميتها انتهت مجمدة فوق أرفف متربة في المكتبات. وهي ليست مشكلته وحده وإنما مشكلة كل الكتاب بل والكتابة نفسها. فالكلمة في العالم العربي محكوم عليها بالتحنيط والكاتب محكوم عليه بالاستمرار في الثرثرة الفكرية. وإن تجرأ يوماً وتطلع إلى تحويل كلماته إلى مشروعات تغيير وجد أمامه ألف ألف يقطعون له رزقه ولسانه.

والانسداد التاريخي أيضاً ليس بمقولة عدمية وإنما توصيف رائج كتب عنه سوري آخر مستنير هو «هاشم صالح» كتاباً كاملاً. هو حالة تدعمها عشرات الأدلة. فبينما كسرت معظم الأمم زنزانة التاريخ وتخلصت من العيش داخل قلاعه، لا يزال العرب يحكمهم ويحاكمهم التاريخ. لا يزال الحاضر يشبه الماضي، وما من مرة بزغ فيها أمل في مستقبل مختلف إلا وعادت قوى الجمود لتسد بوابات الخروج من نفق التاريخ الذي لا ينتهي. ست قوى كبرى أو طبقات نافذة كانت ولا تزال تسد بوابات التاريخ. الطبقة البيروقراطية والطبقة العسكرية والطبقة السياسية والطبقة المالية والطبقة الدينية وطبقة المثقفين كلها تحالفت ضد المستقبل. كلها يغلق بوابات الخروج من التاريخ وبإحكام شديد. ولم يتكرر ذلك عقداً بعد عقد فقط وإنما قرناً بعد قرن ليتحول الانسداد التاريخي إلى ذهنية عامة لا يصح أن نسميها عدمية.

أعرف أن لغتي تحمل كثيراً من التشاؤم والإحباط. لكن طالما أن شروط التغيير لا تتوافر، فلا يمكن أن تكون المقولات التي انتقدها الدكتور «العظم» عدمية وإنما تشخيصية دقيقة. ولا عيب بالمرة في التشخيص المتشائم طالما أنه سيجعلنا نرى الصورة كما هي وليست كما نتمناها.



بقلم : د. إبراهيم عرفات

copy short url   نسخ
18/04/2016
996