+ A
A -
صباح الحَرف.. مساء الحَرف..
إلى زَخَّات مطرِ السنين، السنين الشاهدة على ثقوب الروح، يأخذنا الحنين.
فماذا يُخَبِّئُ لنا مُزْنُ سنان من حنينِ فَنَّانٍ أرهقه الانتظار، وما صبَّرَهُ وَعْدٌ بالمطر، ولا شفعَ له سوى السفر، السفر في ليل الذاكرة؟!
قبل قراءة الْمُزن يتراءى لنا العنوان غيما يُخَيِّمُ على سماء سنان.
قبل معانَقة نصوص المجموعة الشعرية لا ندري دائما حالةَ أو وضعيةَ مُزن سنان كما جاء في سياق العنوان:
هل هو غيم زاحف باحث عن طيفٍ مَرَّ من هنا أو هناك؟!
هل هو غيم جاثم في مكانه تعتصره الرغبة في إمطار العالَم، ومن ثَمَّ العالَم الضيق الذي يُحيط بِسنان؟!
هل هو غيم غاضب ساخط يَركضُ بعيدا حالفا ألاَّ يعود؟!
هل هو غيم يَصرخ صرخةَ مَنْ يَخُونُه الصوتُ؟!
هل هو غيم يحمل على ظهره شاعرَنا ليُسافرَ به قاطعا مسافات الزمن والمكان بحثا عن ظلِّ إنسانٍ كانَ؟!
أم يوحي مزن سنان (اعتمادا على الجذر الذي اشْتُقَّ منه العنوان «م.ز.ن») بِمَدْحٍ يجعل من المجموعة الشعرية قصيدةَ حُبٍّ يزفُّها النبضُ إلى من كان الضوءَ والظِّلَّ وسقفَ الأمان؟!..
ولتكن المعزوفةُ الشعرية «بين الضوء والظل» بدايةَ السطر، سطر الحكاية كما ورد على حد تعبير سنان الراوي في مقطع شعري شَكَّلَ بدايةَ وَصْلِي مع «مُزن» افتراضيا قبل أن تَلْمسه أصابعي.
لاحِظْ عزيزي أننا بتأملنا مَشْهَد العنوان نحاول أن نقفَ عند أكثر من إشارة تُحِيلُنا على شيء مما يصبو إليه قارئ نَهِمٌ كُلُّه شوق إلى قراءة عاشقة.
وانظروا كيف أن الكلمة النكرة (مُزن) تقول أكثر مما يقوله الْمُعَرَّف، لكنها لا تقوله دفعة واحدة، إنما تقوله شيئا فشيئا، لا تُصَرِّحُ، إنما تُلَمِّحُ، وتَفْتحُ بابَ الإيحاء على مصراعيه.
ما تَقوله النكرةُ «مُزْن» في العنوان تقوله بمزاج، تماما كما هو صاحبها سنان يكتب بمزاج، كأنه مندمج مع الغائب(ة) في لحظة إلهام وحوله ألوانُ إحساسِه يُشَكِّلُ بها لوحةَ قصيدته الطويلة الْمُرَقَّمَة الأنفاس.
ترى عزيزي جَلِيا أنني لا أُسَمِّي نصوصَ سنان تسميةً أخرى غير الأنفاس. فكلُّ نص شعري يتراءى لي نَفَساً يلتقطه سنان بكل الرقة الكائنة والممكنة ليختزلَ ويختزنَ في حَبّاتِ هوائه وهواه حكايةً ومشاعر. وهكذا جاءت الأنفاس (أنفاس سنان الشعرية) حُبْلَى بالإحساس، والإحساس أكثر مَنْ يفهمه إنسان حسَّاس.
صَدِّقُوا أن كل نَفَسٍ معادل للغيمة التي تزفّ إلينا الغيث!
ألهذا سمى سنان مجموعتَه بالـ «مُزْن» على أساس أن كل نص قصير لا يَخْرُجُ عن كونه مُزْنَةً؟!
فَتَحْنَا البابَ في هدوءٍ، فَلْنَتَسَلَّلْ أكثر فأكثر إلى قلب البيت (المجموعة الشعرية) لِنُعَايِنَ عن كثبٍ مُؤَثِّثاتِ الفضاء الشعري ونقتنصَ المعنى: ثقوب الروح وخيط الحنين.
لن نطيل الوقوف عند كل قطعة تُدَبِّجُ المكانَ. فهناك في انتظارنا أريكة تأسر شرفةَ الحنين، لها أن تسمح بمغازلة غيمة حالِمة تسمى الرغبة، الرغبة الآيلة لاشتعال مع أول سفر في الذاكرة.
غرفةُ الأمس حياة صغيرة، التَّوْقُ إليها مرآة لحياةٍ ثانية لم يَعِشْها الشاعر، لكن تَمَنَّاها..
ثَوْبُ الروح أحدثَتْ به الثقوب ما يكفي من مسارب، لكنه الحريق (الحاضر) والغريق (الشاعر).
النار مُعَادِلٌ لمساحة تآكل الروح في دواخل سنان. سُحُب كثيفة من الدخان تتصاعد دون أن تَخْمدَ اشتعالاتُ روحٍ يَكُونُها سنان.
فكيف لسنان أن يُداويَ اشتعالاتِه على امتداد الفقد في ليل الوجد؟!
هذا ما يشي به النص الشعري الذي كاد يغطي الصفحة الرابعة من غلاف «مُزن» ومنه:
«كان الجالس الماثل على مصطبة اللحظةِ
يُقَطِّرُ اللفظَ في قارورة الوجدِ
ويُحْصِي الصورَ المبذولة للفقد» (سنان المسلماني، مُزن).
كيف لا تُصَفِّقُ لشاعرٍ يتصبب من شهدِ لسانِه الشِّعرُ صورةً صورةً كما تتصبب نظرات تحنّ إلى الذوبان هياما في بحيرتي عينين، نظراتٌ تتخذ صورة قطرات مُطَهِّرَة، قطرات تُحْيي القلبَ النائم، تنبض نظرةً نظرةً وتتمايل كجسد أنثى يشتعل رغبةً في عناق، فتُشْفي العليلَ وتُحْيِي القتيلَ؟!
النظرات/ القطرات وعاء لفظي، الوجْدُ قارورةُ عشقٍ يمتد من العين إلى العين، واللحظةُ ثمرةٌ مشتهاة من شجرة الزمن، فانظروا كيف يراها سنان بعينيه تتخذ صورةَ مِصْطَبة (وللمصطبة قصة رقيقة معي إِذْ ذَكَّرَنِي سنان بمصطبةِ لحظةٍ أخرى تزامن معها ميلادُ الحُبّ عند بطلةِ روايةٍ كتبتُها وأضع عليها حاليا آخرَ لمساتي)!
هل اللحظة (في نَفَس سنان الشعري) مصطبة تُبقيكَ ما أمكن على ظهرها؟!
هل اللحظة مصطبة تُعْفيكَ من دفء صدرها؟!
المصطبة عرفناها. فمن يكون الجالس؟! أهو سنان؟! أم هو ذات من الذوات التي ترسمها ريشةُ فنانٍ تُصافِح قَلَمَهُ على مدار الكتابة الشعرية، فلا تُفارِق الريشةُ القلمَ إلا لِتُجَدِّدَ اللقاءَ بكل حُرْقَةِ الشوق وهي (الريشة) تهفو إليه (القلم) مع أنها قبالة عينيه؟!
اللفظ أغنيةُ طائرٍ حزينٍ يَكُونُه سنان الشاعر وهو للحظة المنفلتة يستكين، الوجدُ قارورة حنين، والفقدُ مرآة السنين.
الوَجْدُ عين من السُّهْد لا تُشْفى. والفَقْدُ ذاكرةُ مَنْفَى..
الوَجْدُ! الفَقْدُ! الوجد والفقد هما ثنائي غير مَرح لأنه يبعث من الحزن ما لا تطيقه روح. لكن الْمَرِحَ بحق أن يرتبط كلاهما بكيان يسمى الأنثى.
هل هذا ما يقوله سنان؟! إلى الآن ليس من المؤكَّد. فمازلنا ندبّ نزولا إلى أعماق روح سنان، لنقف عند حقيقة الأنثى.
قبل أن نعاين الأنثى في متاهات الروح سطرا سطرا، تعالوا لِنُعَايِنَ اللوحةَ التي زَيَّنَتِ الصفحةَ الأولى من غلاف مُزْن.
من المعروف أن كاتبَ مُزن فنّان. ومن الطبيعي ألا يسمح سنان بأن يتم إقحام لوحة تشكيلية لا علاقة لها بما رَسَمَهُ كتابةً من قريب أو من بعيد. فالفنان هو أكثر من يفهم في الخطوط والألوان، والعصفور لا يَفْهَمُ لُغَتَهُ إلا العصفورُ مثله. ومن هذا المنطلَق لا شك في أن هناك قصدية من أن تكون أولَ صفحة تقف قبالتَك وهي تُغْريك بلذة القراءة لوحةٌ لامرأة.
لستُ فنانةً بالريشة والألوان، لكني مولعة بقراءة إبداع الفنان. لا أفرض عليك عزيزي ذوقي في قراءة اللوحات ولا أحتكم إلى مقاييس قارة. لكن بحِسِّي الشاعر يتبادر إلى ذهني طيفُ امرأةٍ تسافر في المكان وتنثر شَعْرَها الذي يكتبُ به الفنان سلمان المالك قصيدةَ ليلٍ بحبر الأنوثة الموغلة في الغياب.
لن تصدقَ عزيزي أني وقفتُ منذ مدة عند لوحة غلاف «مُزْن» الفنية، وذكرتُ بإعجابٍ الفنانَ الذي رسم اللوحة (سلمان المالك) دون أن أنتبه إلى أنه هو الكاريكاتوريست نفسُه الذي يرسم لـ «الوطن».
فهل غفلْتُ عن الانتباه إلى تذوق إبداع سلمان؟! أم أن ما رسمَتْه أنامله على غلاف «مُزن» جعل ذائقتي ترقص على إيقاعات فنان يشعر رسما؟!
وهنا تساءلتُ: لماذا لم أُنْصِفْ صاحبَ الريشة الغنية بإيحاءاتها في الوقت الذي لم أنحنِ لإبداعه الكاريكاتوري في جريدة «الوطن» بالقدر الذي يستحقه، وعذري أني أسابق الزمنَ ركضا فَلَمْ أتأنَّ في قراءة لوحاته الكاريكاتورية؟!
يقينا سيدفعني هذا التقصير (في أن أزنَ لوحات سلمان بميزان العدل) إلى أن أُنَقِّبَ في لوحاته الكاريكاتورية مجددا لأحاول فهم رؤيته الفنية حق فهمها.
لوحة سلمان على امتداد غلاف «مُزن» سنان تُمارٍسُ عليكَ إغراء نوستالجيا، فتسافر في الزمن ذلك السفر الذي يهيم فيه سنان حنينا إلى ما فاتَه، ما تَرَكَه خلفه، ما أضاعَه، ما غَيَّبَه طوعا أو قسرا..
ذاكرة سنان فَلَكُ تدور فيه كواكب السنين العائمة. هذه الكواكب تشترك في صناعة تاريخ سنان بعين شاعرٍ فنانٍ يَعْتَصِرُ الكواكبَ اعتصارا، ويَنْتَصِرُ لماضيه انتصارا.. مَنْ يقول لنا هذه الحقيقة؟! إنها نصوصُه، أنفاسُه التي يُؤَرِّخُها سلمان بالفرشاة والألوان.
لأنفاس سنان إغراء وغواية وبوحُ نايٍ شَجِي صقلَتِ اللحظةُ الهاربةُ إحساسَه، فزادتهُ رهافة، وأمَدَّتْ في عمر الشَّجَا الساكن فيه. فكيف تَرْجَمَ سلمان إحساسَ سنان؟!
والسؤال الذي يداعبُ أصابعكَ بإلحاحٍ هو: هل اتفق مسبقا الفنانان سلمان وسنان على هذا التقارب بل الالتحام في الرؤية الفنية (رَسْماً وكتابةً شعريةً)؟!أم أن الأمر اعتباطي؟!
لكن مهلا، كيف يمكن لسنان أن يترك الأمرَ محضا للصدفة هو الذي رضع حليبَ الفن التشكيلي؟! وكيف يمكن لسلمان أن يسمح لتحفة فنية ألا تأخذ سوى إطارها اللامع الذي لا يقل قيمة عن محتوى «مُزن»؟!
المرأة السديمية التي جعل منها سلمان بطلة صورته واحتلت حيزا مكانيا مهما على امتداد مساحة الغلاف نلاحظ أن أكثر شيء ينطق فيها شَعْرُها وعينُها. وإذا كان الشعر رمزا لِليلٍ لائل أكل جزءا من تموقع سنان على خريطة الزمن، فانظروا كيف يبهرنا سلمان بما خبَّأه في العين الواحدة من مُحَيَّا الأنثى الشاردة وقد طمس الفنانُ في مُحَياها معالم الإنسان!
العين تُضْمِرُ مسافةَ صمتٍ يقطعها سنان سَفَرا في الذاكرة، والذاكرةُ مُعادل للمنفى الإجباري الذي لا يَتَأَتَّى لكَ الفِرارُ من قبضته إلا بِضَرْبَةِ زهايمر. (عُدْ إِنْ شِئْتَ إلى مقالي «الشوقُ إلى الزهايمر» أول مقال صافَحْتُ به قُرَّاءَ جريدة «الوطن».).
فما الذي يَرسم حدودَ المرأة المذهلة بنظرتها وقد أصابتْ ما أصابتْ من روح سنان التي اتخذت من نظرة عينٍ قلماً تَكتبُ به قصيدةَ حضورٍ ما اكتمل موعدُه وملحمةَ أشواقٍ؟!
لاحظ عزيزي أننا انطلاقا من مكان التجلي في جدار اللوحة التشكيلية نعاينُ الْمَدار الذي اتخذه طريق «مُزن» الذي لا ندري أَتَلِيقُ به افتراضاتُ عينٍ قارئةٍ لِكَفِّ الألوان عابثة بحقيبةِ أدواتِ فنانٍ (سلمان).
بطلة اللوحة تَحدُّها جغرافيا مساحةُ سماءٍ تُمْطِرُكَ ألوانا، كيف لا وسماء سلمان ترتدي قميصَ قوسِ قزح، فتفتح لك نافذةً على عالَم نوستالجي لا نَدري حقيقةً هل هرب منه سنان أم منه تَسلَّلَ إلينا وهو يَدسّ في قبضةِ أصابعه مفاتيحَ الأمس!
عند شُرفة الرِّقَّةِ يَسقط جبروتُ القبضة، والأصابع التي تَرسم وردةَ شعرٍ رقيقةً هل من الْمُنْتَظَر ألاَّ تُطْلِعَكَ على ما لا تقوى على (قبل أن تفكر في) أن تُخَبِّئَه؟!
حديقة الألوان التي يُسَيِّجُ بها سلمان «مُزن» سنان تَعِدُكَ بالكثير، فما ينتظرك في قلب الـ «مُزن» عوالِم ممتدَّة بين قلبين: قلبِ أمس راحلٍ بإذنٍ أو بدون، وقلبِ حاضرٍ بالذكرى مسكون.
بين الأمس واليوم ما بين الضوء والظل..
بين الأمس واليوم رغبات تُذِيب الجليد..
أليس هذا ما نستشفُّه من مقطع آسر لسنان كان بدايةَ علاقةِ عيني الناقدة وحُروفِ مُزنه قبل أن أُبْحِرَ في الحروف:
«ما بين الضوء والظل
تَحْبُو يعاسيب الرغبات
ويَستشري في النفس مدادُ الهوى» (سنان المسلماني، مزن).
(دَعُونِي أوشوش في آذانكم بأن اليَعاسيب مفردها يَعْسُوب، بمعنى مَلِكَة النحل في أكثر استخدامات المفردة. أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنها أنثى؟! اليعاسيب أنثى، والرغباتُ أنثى، والنفسُ أنثى، والمدادُ كيف لا يكون أنثى وهو ذاكرةُ قَلَمٍ؟! حتى الهوى هو مَجْدُ أنثى سَكَنَتْ تاريخَك..).
بين الأمس واليوم حبالُ حياةٍ عليها يُجَفِّفُ سنان قميصَ أشواقه إلى الزمكان كما تُصَوره لنا سُطورُه الشعرية بكامل أناقة حَرْفِها ورشاقةِ رِقَّتِها. هل هذه هي الأنثى (بطلة لوحة سلمان) التي عَصَفَتْ بصَرْحِ روح سنان؟!

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
24/12/2016
3597