+ A
A -
صباح الحَرف.. مساء الحَرف
مازالتْ أَكُفُّنَا عالِقَةً بمُزْن سنان، وأصابِعنا كُلّها شَوْق ورغبة في أن تَحْلبَ الغَيْمَ.
أَلَمْ تُلاحِظوا شيئا؟!
لقد اسْتَخْدَمْتُ مُفَرَدَتين تُؤديان المعنى نَفْسَه إلى حَدٍّ ما: الغَيم والْمُزن. والسؤال الذي يُطلّ من فَتْحَةِ حقيبةِ الأسئلة هو: لماذا رأى سنان مِنَ الأرجح أن يُوظِّفَ مُفردةَ الـ«مُزْن» متجاوزا مفردةَ الـ«غَيْم» (أو الغيمة)؟!
هل هناك حكمة مِن أن يَمِيلَ إلى كلمة الـ«مُزن» المحدودة الاستعمال لغويا على حدّ دِرايَتي مقارنةً بــ«الغيم»؟!
لا تنتظروا مني أن أقول لكم إني سألتُ صاحبَ «مُزن» عن منطق الـ«مُزن»! فالمجموعة الشعرية نصوص أدبية، عندما يَأْذَنُ لها كاتبُها بالخروج إلى شارع القراءة لا مجال لأسأله عن شيءٍ مِن مَوْقِعي كباحثة في الأدب.
لا بل قد لا تصدقون أنني لم أَطَّلِعْ على أي دراسة أو قراءة في مجموعة «مُزن»، حتى لا أَنْسَاقَ مع رؤية القارئ أو الدارس لـ «مُزن»، وإِلاَّ ما جَدْوى قراءتي وما الجديد الذي سأضيفه وأنا منقادة لِوِجْهات نظرِ غيري من الزملاء الباحثين في الأدب أو الهواة؟!
وهنا أفتح قوسا لألفتَ الانتباهَ (باعتباري قارئة عاشقة لكل أدب جميل تَسبقه قراءةٌ متأنيةٌ وفاحصةٌ قبل الحكم عليه بالجمال إن كان يَستحقُّه فعلا) إلى هذا العبث الذي بِتْنَا لا نُعيرُه أهميةً إلى الدرجة التي أصبح معها الأَدَبُ مُهَدَّداً بأن يُقْبَرَ (بسبب تجاهل القارئ الناقد له أو زُهْد المبدع في أن يَكتبَ في ظل غياب النقد الْمُسايِر).
لا أدعو إلى المجامَلة والنفاق الأدبي الذي سبق أن خَصَّصْتُ له مقالا طويلا ضمن باب «بين حرفين» بعنوان «النفاق الأدبي وحرب البالونات» (صفحة اتجاهات ثقافية، عدد 23 يوليو 2016)، لكني أومن بحَقّ المبدِع في أن تُنْصِفَه عندما يكون أَهْلاً للإنصاف وجَديراً بإلقاء الكثير من الضوء على ما أَبْدَعَتْهُ أصابع مثل الأصابع التي رسمَتْ حديقةَ آسٍ يُسَمَّى الـ«مُزن».
الأصابع ثروة تَسْتَحِقُّ أن تُثَمَّنَ عندما تُبْدِع، ومن حقها أن نكون عادِلين في تقديرها. الأصابع ثروة تَسْتَحِقُّ أن تُثَمَّنَ عندما تَقْرَأُ الإبداعَ وتُبْحِر باحثةً عن مرجان الحروف، ومن واجبِها (هذه الأصابع) أَلاَّ تَكون مُقَصِّرَةً في التعريف بمواطن الجمال حين تَكُون هناك مواطن جمال حقيقية، جمال دفين تَتَسَلَّقُه أصابعك كما يتسَلَّقُ عاشق نخلةً تُغْري بقطفها.
عندما تختلي بـ «مُزن» سنان في شُرْفَتِكَ الهادئة، فَكِّرْ في شيء واحد هو أن تُعَايِشَ حُروفَ الـ «مُزن»، وأن تَكتشفَها ورقةً ورقةً كما تكتشف عِطْرَ وردةٍ مُخَبَّأَةٍ خَلْفَ بابِ حديقةٍ. شهادتُك في حَقِّ الوردة اعتراف ضمني بقُصور العَيْنِ الناقدة في الوصول إلى قَلْب الجَمال ومَوْطِن العِطر.
من هنا دَعْوَة صادقة إلى كُلِّ عاشقٍ للأدب بالقراءة والتنقيب عن «الفَنّ»، والشِّعرُ فَنٌّ يستحق الغوصَ والإبحارَ لِتَلَقُّف اللآلئ.

«مُزْن»..!
«مُزن» سنان انطلاقا من العنوان يكشف لنا الخلفية التي بَنَى عليها الشاعرُ طَرْحَ عنوانِه. فالشاعر يستقي عنوانَه من حقل الدين، لأن المفردةَ نُصادِفُها أوَّل ما نصادفها في كتاب الله جلّ جلاله.
أول ما نَقْرَأُ عنوانَ مجموعة سنان نَستحضِر الشاهدَ من نصّ القرآن: «أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ» (سورة: الواقعة، الآية: 69).
فماذا يُفيد الدَّال اللغوي من مَعنى مُتَضَمَّن في الآية الكريمة؟!
إن مَدلولَه لا يَخْرُجُ عن الغيم. لكن مهلا، فَلَسْنا نتحدث عن أيّ غيم عابِر.
فهل يَقْصد سنان بتوظيف الْمُزْن الإيحاءَ بالغيم الذي يَعِدُ بالمطر؟!
هل يقصد الغيمَ الذي لا يُبَشِّرُ بمطر؟!
أم تراه يذهب أبعد من ذلك حين يُلْقي بنا معه في حفرة الحيرة التي استدرجَتْه إليها لما رأى من غير العَدْل أن يَكونَ مُزْنُه ذاك الذي قد يأتي بالمطر وقد لا يأتي بالمطر، ذاك الذي قد يأتي وقد لا يأتي وكأنه (الشاعر) في انتظار غودو (ENATTENDANT GODOT) كما جاء في مسرحية صامويل بيكيت (SAMUEL BECKETT)؟!
اُنْظُرُوا إلى عمق هذا الرَّجُل (سنان)!
انظروا إلى هذا الشاعر بِعُمق!
انظروا إلى لغة سنان التي ترخي بظلالها العميقة على ما هو أَعْمَق!
نحاول قَدْر الإمكان أن نَربطَ الاتصال بسياق معنى عنوان مجموعة سنان، فتَلُوحُ في أُفُقِ التساؤلات بارقةُ أملٍ تجعل مُزْنَه نابضا بالحياة، سواء تلك الحياة التي اختُزنتْ في صفحات الذاكرة العصية عن الانفلات أم تلك الحياة التي يَعِدُ بها سنان القارئَ في لحظات.
إنها لحظاتُ صفاءٍ وأُنْسٍ تَطربُ لها عيناكَ ويُحَيِّيها قلبُكَ نبضةً نبضةً بعيدا عن لسان حال واقعٍ (يُغْنِي عن السؤال) سَرقَ وردَ الأمس من شرفة شاعرٍ لا ندري إن كان عِطرُ وردِه (ورد الأمس) يُطَيِّبُ قَلْبَهُ الذي كتمَ سنان صرخَتَه لما انغرَزَتْ فيه شوكةُ الورد، ففعلَتْ به ما فَعَلَتْه شوكةُ شجرة الورد في قصة أوسكار وايلد (OSCAR WILDE) بقلب عندليبه الباحث عن رد الاعتبار لزمن الحُبّ والود عَبْر إحياء عمر حُمْرَة الوَرد ليحظى الفتى العاشق بمراقصة فاتنتِه التي اشترطت عليه من باب تعجيزه أن يوافيها بوردة حمراء في غير مواسم حمرة خَدّ الوَرد..
هل كان الفتى المسكين يُصَدِّقُ أن الخجلَ رحلَ ساحبا خلفه وشاحَ حُمرته، والحُمرة عنوان الحُبّ وبَريد القلب؟!
لا تتصوروا أني نأيتُ عن موضوع مُزْن، لماذا؟! لأن هذا المعنى حاضر بقوة عند سنان في مقطع يتصبب حنينا فيقول:
«حَنَّ الفتى للزَّهرةِ التي بأعتابِ
النوافذِ تخلعُ أكمامها
وتَستخيرُ لو غَنَّتْ بلابل الأوقات أحلامَها» (سنان المسلماني، مُزْن).
هذا هو سنان المثقف الذي امتدَّتْ أصابعه إلى دالية أوسكار وايلد لِيَقْطفَ من عناقيدها ويَعصر بإبداعٍ ويَرسم بريشةِ إحساسِه صورةً شعريةً نَدِيةً عُنوانُها الحنينُ!
الوردة في قصة العندليب والوردة كانت تحت نافذة بيت الفتى، لكنها لم تكن حمراء. لِتُعيد الوردةُ حمرةَ الخجل إلى خَدِّها كان على العندليب أن يُغَنِّي على امتداد ظلمة الليل. كلما غنى العندليب أكثر انغرزَتْ شوكةُ الورد في قلبه أكثر فأكثر، فمِنْ وجعِ قلبِه المذبوح وبحَّة صوتِه المجروح تُشْرِقُ شمس الحُبّ في قلب الوردة التي تَحْمَرُّ بِقَدْرِ ما يسيل دمُه مع استرسال نزيف قلب العندليب..
سنان يُبْدِعُ من مادة أوسكار وايلد معنى آخر وهو يعيد تجسيدَ المشهد بما يُمليه عليه إحساسُه.
عندليب وايلد بُحَّ صَوتُه غِناءً إلى أن احمرَّ الوردُ، لكن الفتاةَ العابثة قَتَلَتْ قلبَ الفتى لما كَفَرَتْ بدين القلب وأَجْهَضَتْ حُلما ورديا أبكى الفتى. أما عنادل سنان، فمازالتْ تَتْرك الوردةَ (الزهرة) هي الأخرى كصاحبها (سنان) مُعَلَّقَةً «في فضاء التمنِّي» (سنان، نص «عيدان»، جريدة الوطن). لذلك يتعذر حلمُ الورد بالحُمْرة، لماذا؟! لأن غِناءَ العنادل شَكَّلَ النَّصَّ الغائبَ في رؤية سنان.
أوسكار يُعيدُ فَتى قِصَّتِه إلى أحضان الفلسفة بعد أن أعلن رِدَّتَه لما اكتشف لَوْثَةَ الحُبّ وسخافتَه. وهذه وردةُ سنان التي تتقاسَم معه الحنين نراها بعين شاعرٍ يُرَبِّيها على الأمل في أن تُغَني لها العنادل يوما، نراها بعين شاعرٍ لا ندري إن كان قد خَبَرَ الحُبَّ، وهل وَجَدَهُ وهماً كبيرا كما وجَدَهُ العارفون بأحوال الحُبّ ومَنْ يغرفون من خابيته!
كأن شاعرَنا لم يَقْضمْ قَضْمةً واحدة تُذْكَرُ من تفاحة الحُبّ، لماذا؟! لأنه بلسان الراوي لقصة فَتاه نجده مازال يُمَنِّي نفسَه بغناء العنادل!
فهل حقا لم ينبضْ قلبُ شاعرِنا لِقَلبٍ؟! أم أن الشاعرَ لم يَحْظَ بنبضِ القلبِ الذي كان (أو يستحقُّ أنْ) يَنبض له قلبُه؟!
الحياة مُزن، مُزن يَطير بك إلى كتابِ تاريخٍ يسمى الذاكرةَ التي هي معادِل للكتابة بالحبر الصيني، كتابة عَصِية المرأى، لكنها ضاربة بجذورها كالوَشْم في كَفِّ امرأةٍ غجريةٍ تسمى الدنيا.
حياةُ الشاعر سنان المضغوطة مُزنٌ يُغْريكَ، يُغريك بالمطر قبل أن يُرسي بِكَ عند شاطئ اليقين بما إذا كان (سنان) راغبا في أن يُدْنيكَ منه (مَطَر الْمُزْن) أو لا يُدْنيكَ. أنتَ والحظّ! أنتَ وحظّك من خوخ الحنين الذي يَسْتَدْرِجُكَ شَغَفُكَ به إلى تَمَنِّي أن يَسقطَ بين يديك! (لنا عودة بإذن الله).
copy short url   نسخ
17/12/2016
3457