+ A
A -
عالَم من المشاعر الفَيَّاضة الحُلْوَة رَسَمَهُ لها يومها وهو يرفعُ صوتَه لِيَتلو على مسامعها أواخر سورة البقرة وما تيسَّرَ من سورة يوسف عَلَّها هي تَقْوى على تجاوز المحنة.
تحت قُبَّةِ الوهن كانت يد الطبيب تتحسس أطرافا من جسدها، بينما كانت عينها الثالثة على الصوت الذي يتسلل إليها (صوته) مرتلا آياتٍ من الذكر الحكيم تعجيلا بشفائها هي التي كانت له مرآةَ الروح، فإن مرضَتْ، مرضَتْ روحُه.. وإن شُفِيَتْ، تنفَّسَتْ روحُه وتنفَّسَ هو مجددا هواءَ الحياة.
هذا ما تنتظره من مواساة: روح القرآن ونور القرآن. فالقرآن جِسْرُ الله، الجِسر الذي يَعبره عباده بسلام ويَصِلُونَ إلى آخر الطريق سالمين مُطْمَئِنِّين.
الجمعة الأخيرو خَرَجْتُ من العمل بعد أن نصبَ الظلامُ خيمتَه، قطعتُ خطوتين ووقفْتُ أنتظر سيارةَ الأجرة كالمعتاد. لكن الغريبَ أنني نسيتُ أمرَ السيارة، وانشغَلْتُ بالهاتف أُنْصِتُ مِرارا وتكرارا إلى الشريط الصوتي الذي حاولتُ أن أُجَوِّدَ فيه سورةَ الضحى.
كُنتُ قد سجَّلْتُ ذلك الشريط ليلةَ الخميس التي سهرتُ فيها إلى ما بعد الثالثة صباحا وأنا أحاولُ أن أُمَرِّنَ صَوتي على قراءة آية الكرسي وسورة الضحى فضلا عن سورة الملك وسورة الدخان وسورة النجم، فهذه السور الأخيرة أكاد أجتهد في قراءتها بشكل مُوَفَّقٍ لأنني غالبا أَخْتمُ بها يومي على وقع صوت قراءة الشيخ السديس لها وأنا أُسْنِدُ جهاز الكمبيوتر الصغير إلى الوسادة الجانبية بينما يدايَ تجتهدان في جمع أشياء العالَم الصغير الذي أُقِيمُه فوق سريري يوميا.
اِنْتَبَهْتُ إلى تأخر الوقت، فما أن أوقفْتُ سيارةَ أُجرةٍ حتى استأذنْتُ السائقَ أن يَسمعَ إلى ما يَنْقُلُه مُكَبِّرُ صوتِ هاتفي شَريطةَ أن يُعَلِّقَ عليه لأني سَأَضْمَنُ أنه لَنْ يُجَامِلَنِي. أَنْصَتَ الرَّجُلُ بحكمةٍ، ثم بادرَ بتسجيل ملاحظاته. قال إن الصوتَ جيد وفيه خشوع ومخارج الحروف واضحة ووو.. لكن أَهَمَّ شيء وَقَفَ عنده (وأيَّدْتُهُ فيه) هو أن صوتي كان كأنَّهُ يُعْتَصَرُ اعتصارا.
لقد كانَ نَقْدُه بَنَّاءً، فَأَعَدْتُ الشريطَ في البيت، وحاولتُ ليلة الجمعة أن أَتَدَرَّبَ مجددا على أن يسترسلَ صوتي بطلاقة. وكان ما تعلَّمْتُهُ من دروس في اليوتيوب، مِن حركات غُنَّة، وتفخيم الراء وترقيقها، ووقفٍ وسواه، خيرَ مُعينٍ لي في مقصدي، وأعترف أني وجدتُ بين يَدَيْ الله راحةً نفسية قَلَّمَا تَسْمَحُ بها الظروفُ.
ليلة الأحد سُرِرْتُ باتصال قريبتي بهاتف آخر تسألُ عني وعن رقم هاتفي الذي تَعْرِفُ أني لا أحتفظ به مُطَوَّلا. اِسْتَمْتَعْتُ بِمُكالَمَتِها، واستحضَرْنا ذكرياتِ العطلة الصيفية. الجديد أنني ثَمَّنْتُ حِرْصَها على حفظ القرآن، وقَدَّرَتْ لهفتي على دراسة قواعد التجويد، رغم انشغالات كُلٍّ مِنّا.
وأَنْتَ بين يديه (ربّك)، يَصغر العالَمُ وتَكبر فيه عظمتُه. وأنتَ بين يديه تشعر بتفاهة ما يسعى إليه الغافلون رَكْضاً وقِياما وقُعودا، ودَبِيباً حين يرحل زمن الصّبا.
أحلى الكؤوسِ كأسُ المحبة. وأرقى مَحَبَّةٍ حُبٌّ خالص لله. واللهُ خَلَقَكَ، أَحْسَنَ تَصْوِيرَكَ، خَيَّرَكَ ثُمَّ تَرَكَكَ تُواجِهُ قَدَرَكَ، فاعْرِفْ إلى أين تَقُودُك قدماكَ وما سَيَكونُ مآلُكَ، «إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ» (سورة: آل عمران، من الآية 185).
نَافِذَةُ الرُّوح:
«بِالحُبِّ تُسْقَى الروحُ.. ما الرُّوحُ إلا وَردة».

بقلم :د. سعاد درير
copy short url   نسخ
15/12/2016
2510