+ A
A -

يقولُ علي الطنطاوي رحمه الله: أنا قد ألّفتُ أكثر من خمسةٍ وعشرين كتاباً، فهل تظنونني أحفظها عن ظهر قلب؟ فلماذا يُكلّفُ التلاميذ حفظَ كُتب لا يحفظها أصحابها؟!
الشّيخ علي الطنطاوي، فقيه وأديب وقاضٍ سوريّ، وهو أحد أشهر أعلام الدّعوة الإسلاميّة والأدب العربيّ في القرن العشرين، جاء إلى هذه الأرض عام 1909، وغادرها بعد تسعين سنة حافلة بالعطاء، أسلوبه جزل أخّاذ، يجمع فيه عمق المعنى وعراقة اللغة، وإن جاز لمثلي أن يشهد لمثله، فهو أحد الذين تُرفع لهم القبعة احتراما، وتُطوى في حضرتهم الرُّكب تَتَلْمُذاً!
تُعاني مناهج التعليم في بلادنا من مشكلتين رئيستين، الأولى أنّها ما زالت تنظرُ إلى الطلاب على أنّهم أكياس على المعلّم أن يحشوها بالمعلومات، والثّانية أنّ كثيراً من هذه المعلومات لا طائل منها!
كانت ابنتي في الصّف الثالث الابتدائيّ عندما طلبتْ منّي أن أكتبَ لها الحروف الشّمسيّة والحروف القمريّة لتقوم بحفظها، ولأنّها تعتبرني أعلم أهل الأرض، كما يعتبر الأطفال جميعاً آباءهم في هذه السّن، فقد أُصيبت البنتُ بدهشةٍ عظيمة! وزادت دهشتها عندما قلتُ لها: لا أريدكِ أن تقومي بحفظها أنتِ أيضاً! فسألتني: وكيف أُصنّف الحروف في الامتحان بين شمسيّة وقمريّة؟! قلت لها: الأمرُ بسيط، وسأعلمكِ كيف تفعلين هذا! شرحتُ لها أولاً سبب تسمية الحروف بالشمسيّ والقمريّ، وكيف تختفي اللام في كلمة الشمس وتظهر في كلمة القمر! ثم قلتُ لها: لنأخذ حرف الحاء ونعرف إن كان شمسياً أم قمرياً، أعطني كلمة تبدأ بحرف الحاء، فقالت: حَبْل. قلتُ لها: أدخلي عليها ال التعريف. فقالت: الحَبْل. سألتها هل لفظنا اللام؟ قالت: أجل. قلتُ لها إذا الحاء حرف قمريّ، وعليه قيسي، فكتبتُ لها حروف الهجاء كلها، وقامت بتصنيفها في دقائق! وهذا ما أُسمّيه درسا للعمر! ما ضربته مثلاً إنما هو مثل صغير على الحشو، وعلى استبدال الفهم بالتحفيظ، وإذا كان المثل يقول: لا تعطِ الفقير سمكة، ولكن علّمه كيف يصطاد، فمناهجنا لا تُعطي التلميذ سمكة، ولا تعلمه كيف يصطاد، وإنما تريد منه أن يدخل إلى المحيط ويقبض على حوت ويعود به إلى البَرّ!
بخصوص المعلومات التي لا طائل منها، أولاً لا مشكلة عندي في أن يكون المرءُ مثقّفاً، على العكس تماماً فإنّ العكس عندي هو المشكلة! ولكن هناك معلومات لا تلزم إلا إذا اشترك الإنسان في مسابقة من سيربح المليون! لماذا على التلميذ الغضّ الطريّ أن يحفظ مساحة البرازيل، وكم هو طول نهر المسيسيبي، وكم تُنتج جنوب إفريقيا من الأخشاب، وكم عدد الأغنام في الدنمارك، وكم حصة الفرد من الناتج القومي في آيسلندا، وكيف هو المناخ في بنما، وما اسم الذي اغتال وليّ عهد النّمسا، لم يبقَ إلا أن يحفظ الطلاب أسماء سكّان الصين!
مناهجنا لا تُعدّ الطالب للحياة، لأن الذين يضعونها لم يفهموا الحياة بعد! في حرب الخليج الأولى طلب من طلاب عدّة جامعات أميركية تحديد موقع الكويت على الخريطة، فلم يستطع تحديدها إلا 8% ‏ منهم، ومع هذا أميركا بخير، وطلابها يتخرّجون ويُنتجون ويخترعون، وابنتي التي تحفظ ثلاثة أرباع عواصم دول العالم وعملاتها، لا يوجد في منهاجها حصّة كمبيوتر واحدة! ولكن لا شيء يدعو للأسف، فأنا مطمئن لمستقبل البنت، فإنها ولله الحمد تعرف أنّ عملة الهند هي الرّوبية!
copy short url   نسخ
03/12/2016
8613