+ A
A -
في كل ثقافة مجموعة قيم مركزية حاكمة. وهي قناعات وميول وطرق فهم يتبعها معظم الناس للحكم على الأشياء. ويمثل الزعل إحدى القيم المركزية في حياتنا العربية لأنه تحول إلى نمط ومنهج وأسلوب وملمح عام. وبقدر ما في ذلك من حكم قاس إلا أن فيه أيضاً رحمة. فالتحذير من الخطأ أهون من السكوت عليه. ومن يتأمل حياة الفرد والعائلة والجيرة والقرية والدولة في العالم العربي وبل وينظر إلى العلاقات البينية بين البلدان العربية لا بد أن يلحظ أن كثيراً من العرب لا يعيشون فقط حالات من الزعل وإنما يعيشون بالزعل وربما يعيش بعضهم فقط للزعل.
والزعل في اللغة والاستعمال الرائج هو الاستياء والغضب، هو السخط والحنق، هو الضجر والضيق، هو الملل والغيظ، هو الرفض وعدم الارتياح، وكل ذلك لا يخفى في كافة مشاهد الحياة العربية من أصغرها إلى أكبرها. من الزعل من كل ما هو بسيط وأساسي إلى ما هو معقد يصل حتى إلى المستوى السياسي، الزعل من الأصدقاء والزملاء والأقرباء، من الجيران وبواب العمارة، من انقطاع المياه، من حالة المواصلات، من رؤساء العمل، من كلمة شاردة ودعابة عابرة، من الشيعة والسنة بحسب مذهبك، ومن المسيحي والمسلم بحسب ديانتك، من السلفي والإخواني بحسب جماعتك، من العلماني والإسلامي بحسب أيديولوجيتك، من رئيس حزب أو رئيس دولة، من قناة إعلامية، من دولة بأكملها، بل ومن العالم كله أحياناً، زعل من الأشياء ومن الأشخاص ومن كل القوى المتآمرة، وزعل آخر على وليس من الذات التي دائماً ما تشعر بظلم المتآمرين.
ومن الطبيعي أن يكون الزعل قريناً للعرب لأنهم مسكونون بنظرية المؤامرة. فالمسكون بالمؤامرة يشك في كل شيء ويستاء بسرعة من أي شخص. كما أن الزعل جزء من حالة القلق التي تسربت إلى أعماق الإنسان العربي. فهو نتيجة للفشل في التنمية والديمقراطية وتحقيق العدالة وقبل كل ذلك في بناء الوعي السليم. هو سلاح دفاعي يستعمله الفرد ضد الخوف من التقلبات التي بات العربي يراها تقترب منه لتفترسه وتفتك به. هو الطريقة التي يواسي بها نفسه من ظلم الآخرين ويبرئها من تقصيره في حق ذاته. الزعل لذلك متلازمة لا تنفصل عن الجرح النرجسي العربي. فمن تربى باستمرار على أنه ابن حضارة عريقة تكالبت عليها الأمم لا بد وأن يزعل من كل ما حدث له ومن كل من يتصور أنه السبب في حدوثه دون أن يزعل ربما بالمرة من نفسه.
ولم يكن الزعل لينتشر أيضاً بين العرب إلا لأن قيمة ثقافية أخرى تجذرت بدورها في أعماق الوجدان العربي لا يمكن أن يعيش الزعل بدونها وهي العشم. فمن يزيد عشمه يزيد زعله. ومن يتوقع من الناس أكثر وينتظر منهم أن يتصرفوا كما يرغب لا بد وأن يستاء منهم لو أن تصوراته وكلماته بل وحتى إيماءاته لا تقابل بالقدر الذي يتوقعه. ويصلح العشم السياسي وحده مثالاً. فقد تعشم البعض بقوة في مرسي ثم في السيسي، وتعشم آخرون في الغنوشي والمرزوقي، ومن قبلهم كان العشم في عبدالناصر وصدام، وتعشم آخرون في الحماية الأميركية وفي الرسالة الإخوانية. لكن سرعان ما تحول العشم إلى زعل وإلى اتهامات ورؤية كل ما يجري من هؤلاء على أنه خيانة ومؤامرة.
الزعل شعور إنساني طبيعي لا يعتبر في حد ذاته خطأ لكن المبالغة فيه وجعله معياراً للنظر إلى الأشياء والأشخاص والدول فهو الخطأ بعينه. وهذا ما بات ملحوظاً في الشخصية العربية. فالعربي بات يسرف في الزعل وسيبقى يسرف في الزعل طالما أنه محتقن ومعبأ. فهو مشحون بالخوف من السلطة والحروب الدائرة. ومتوتر من قلة الدخل ورداءة التعليم ومستوى الخدمات. وغاضب من الفساد والغلاء والبيروقراطية. ومن الطبيعي أن يزعل إذا كان كل ما حوله لا يتوقف عن الضغط عليه. لكن الزعل ليس حلاً ولن يزيد على من يعمق حفرة لكي يخرج منها. إن الانغماس العربي في الزعل عائق أمام التغيير يلفت إلى ضرورة شن الثورة التي لم يقم بها العرب إلى الآن: ثورة معرفية تغير طريقة فهمهم لأنفسهم وتفكيرهم في الآخرين.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
21/11/2016
3064