+ A
A -
يثير شعار الرئيس المنتخب دونالد ترامب «الولايات المتحدة أولا» الكثير من التساؤلات عن سياسته الخارجية، لقد استوقفني هذا الشعار لأنه استخدم في التاريخ من قبل شعبويين في مواضع ودول أخرى. فبمجرد ان يطرح هذا الشعار يأتي معه السؤال التالي: ومتى كانت أميركا ليست أولا، ففي كل الأحوال جاءت أولا عندما تقوم بقضايا إيجابية أو عندما تتبنى مسائل هامة تمس دولا ومجتمعات أخرى كحقوق الإنسان أو كاستعادة شرعية الكويت عام 1991، وهي جاءت أولا عندما قامت بممارسات حربية وسلبية كاحتلال العراق وتدمير مؤسسات دولته عام 2003.
لم تكن السياسة الأميركية في يوم من الأيام خارج منطق «أميركا أولا». لقد كانت أميركا أولا عندما غزت وشنت الحرب، وعندما قادت للسلم، كما وعندما استوعبت المارد السوفياتي وفككته، وعندما دعمت إسرائيل على حساب العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه. وينطبق ذات المنطق على سور المكسيك المزمع بناؤه من قبل الرئيس ترامب. لنتذكر مثلا ان الأسوار مكلفة وتفيد شركات المقاولات والأمن خاصة الإسرائيلية، التي تسوق للأسوار. وهذا يمثل أيضا بصورة من الصور «أميركا أولا». السور لن يحل مشكلة الهجرة المستمرة من المكسيك، بل سيفاقمها.
أن تصل دولة كالولايات المتحدة لما وصلت إليه من مكانة في العالم وأن تكون بنفس الوقت مرتبطة بهذا العدد من القضايا ضد دول أخرى من خلال: عقوبات وحروب، مواجهات ضد إرهاب، دعم للممارسات الاستيطانية والعنصرية في فلسطين، اغتيالات، هيمنة اقتصادية، عسكرية، ديون هائلة، يؤكد بأن السياسة الأميركية في المرحلة القادمة ستكون أكثر تعقيدا. الامبراطورية الأميركية الممتدة من كوريا الجنوبية وآسيا لدول الشرق الأوسط وإسرائيل ولأوروبا والناتو والمحيطات ستتواجه مع تناقض التوفيق بين البناء الاقتصادي وحل مشكلة التفاوت الاجتماعي والإجماع الوطني في الداخل الأميركي من جهة وبين الاستمرار في السياسة الامبراطورية المكلفة.
في سياسة ترامب الخارجية تركيز على عصا غليظة، لكن التاريخ، كما هو حال عهد الرئيس بوش، يؤكد لنا بأن العصى الغليظة لا تقوى على معاندة بيئة كالتي تحيط بعالمنا. وتؤكد الأحداث الكثيرة في الإقليم العربي بأن القوة لا تفيد إلا بخلق مشكلات أكبر، فإن لم تتبلور أسس للعدالة فمهما كانت القوة ستكون المقاومة التي تواجهها عاتية. سنجد مع ترامب تصعيدا غير مسبوق في اللغة الكلامية تجاه المنافسين والأعداء، لكن على الأغلب لن يقترن هذه التصعيد بممارسات تساويه في الحدة على أرض الواقع. اللفظية الجديدة ستكون سيدة الموقف في الإعلانات الأميركية، وهي لفظية منسجمة مع سياسات دولة كبرى أكثر استعدادا من أي فترة مضت لممارسة نسب من الانسحاب من مواقع ساخنة في العالم. وعلى ما يبدو من المقدمات فإن الإنسحاب الأميركي سيقع تحت وابل من الدخان. وهذا سيعني عمليا ان الولايات المتحدة ستترك وراءها الكثير من الألغام والحلول الفاشلة، لكنها بنفس الوقت ستعوض في الداخل من خلال التأكيد على القومية الأميركية كقوة لإعادة بناء التجانس في ظل الانقسام الهائل الذي يشهده المجتمع الأميركي. هناك عودة للأمركة القومية والوطنية، كوسيلة لتخفيف القوة التفتيتية للهويات الأميركية الناشئة من رحم التهميش أم تلك التي تشعر بخسارة مواقعها بسبب اللون والعرق. لكن مدى نجاح هذه التوجهات في زمن الرئيس المحافظ واليميني ترامب ستبقى رهنا بعوامل عديدة من أهمها التعامل مع الامتيازات الطبقية والتهميش الذي يسود قطاعات هامة من المجتمع الأميركي.
بوجود ترامب رئيسا أم دون ترامب، مع المحافظين الجدد أم مع اوباما، فالدولة الكبرى التي يحبها العالم لنموذجها الملتزم بالحريات ولقوتها الناعمة في السينما والابداع كما يكرهها الناس لسياستها الخارجية الإمبراطورية، غير متيقنة من الخطوات التي ستتبعها. ستكتشف الولايات المتحدة ان إرث الإمبراطورية سيواجه اهتزازات جديدة لأسباب مالية وعسكرية وداخلية، وهذا بدوره سوف يزيد من جرأة المنافسين الجدد كالصين وروسيا. الإرث الإمبراطوري الأميركي سيترك مزيدا من الفراغ للاعبين الصاعدين في الشرق أكانوا أتراكا أم إيرانيين أم عرب.
شفيق ناظم الغبرا بقلم:
copy short url   نسخ
20/11/2016
3161