+ A
A -
الشرق الأوسط في قارة، وكولومبيا في قارة ثانية. ما يحدث هنا لا يترك أي أثر هناك. وما يحدث هناك قد لا يثير اهتماماً هنا. غير ان ثمة استثناء. والاستثناء هو الاتفاق الذي تمّ التوصل اليه بين الحكومة الكولومبية والحركة اليسارية الستالينية المتطرفة – فارك- التي كانت تقود حركة تمرد مسلح استمر 52 عاماً، أودى بحياة زهاء 220 ألف مواطن.
هذه الحركة انطلقت مع بداية الحرب الباردة. واستمرت إلى ما بعد سقوط جدار برلين.. إلا انها أدركت الآن انها حركة عبثية، فوافقت على إنهاء التمرد والمصالحة مع الدولة.. وبشروط الدولة؟ ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك من دون محاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها الحركة، من تدمير المنشآت، وإحراق المزارع، وتهجير الملايين من السكان، واغتيال العديد من المسؤولين، على مدى خمسة عقود من الزمن؟ رغم ذلك كله، فان الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس وافق على التسوية. ووقّع على اتفاق بذلك في شهر سبتمبر الماضي في مدينة قرطاجة الكولومبية، بحضور أكثر من عشرة رؤساء من دول أميركا الجنوبية.
يطرح اتفاق التسوية سؤالاً رمزياً ومبدئياً معاً وهو: أيهما يحتل الأولوية على الآخر؟ العدالة أم السلام؟.
تقتضي العدالة اعتقال ومحاكمة المسلحين والمسؤولين عنهم ومعاقبتهم وفقاً ليس فقط للقوانين المحلية، ولكن وفقاً للوثائق الدولية التي تتعلق بحقوق الإنسان. فالحركة الستالينية – فارك- ارتكبت عدداً لا يُحصى من الجرائم الجماعية والفردية. وتقع ارتكاباتها في إطار مسؤوليات محكمة الجنايات الدولية. غير ان الحكومة الكولومبية آثرت السلام على العدالة المطلقة. فالضحايا الذين سقطوا على أيدي الحركة، لن يعودوا. ولكن يمكن تقديم تعويضات استرضائية إلى ذويهم. والمزارع التي أحرقت وشرد الفلاحون العاملون فيها، يمكن اعادة تأهيلها وتقديم مساعدات تشجيعية لاصحابها من جديد. وبالتالي يمكن إعادة المواطنين المهجرين إلى قراهم ومزارعهم ليبدأوا حياة جديدة بدعم من الدولة وبحمايتها.. بعيداً عن هيمنة حركة التمرد وسطوتها.
هذه الجدلية بين أولوية التسوية والسلام، أو العقاب والعدالة، كانت موضع استفتاء عام أمام الشعب الكولومبي الذي عانى طويلاً من أطول فتنة عرفتها أميركا الجنوبية في تاريخها الحديث. وقد جاءت نتيجة الاستفتاء رافضة لمشروع الاتفاق– التسوية.
لقد تعهد قادة حركة فارك بتسليم أسلحتهم، وبوقف العمل بزراعة المخدرات والاتجار بها، كما تعهدوا بتقديم تعويضات (من مال جمعوه من تجارة المخدرات) إلى المزارعين الذين هجروهم وصادروا مزارعهم، وحولوها من زراعة القمح والذرة إلى زراعة المخدرات.
فقد أدركوا، ولو بعد مرور عدة عقود من التمرد العبثي، ان مشروعهم الطوباوي هو مشروع فاشل، وان العودة إلى كنف الدولة والمجتمع هو السبيل الوحيد للعيش بكرامة.
اذا نجح هذا التحول في كولومبيا، فانه قد يصبح نموذجاً صالحاً لمعالجة قضايا مماثلة في العديد من دول العالم الثالث، وخاصة في افريقيا الوسطى، ونيجيريا، وتشاد وحتى السودان – دارفور. وكذلك في افغانستان (طالبان) وفي الاقليم الشمالي الشرقي من الهند.. وربما في سوريا والعراق أيضاً حيث تقوم حركة داعش بما قامت به حركة فارك في كولومبيا.. وفي اليمن حيث ينهج الحوثيون النهج ذاته أيضاً.
لقد رفعت كولومبيا شعاراً جديداً للعدالة، وهو العدالة التوفيقية. أو العدالة البناءة. ليس بمعنى استرجاع الحق ومعاقبة الجاني، بل بمعنى الاتفاق مع الجاني على أن يتوقف عن ارتكاب الجريمة، وأن يعيد ولو جزءاً من الحق لأهله.. وفي مقدمة ذلك كله، أن يعترف بحق الدولة في استعادة سلطتها باعتبارها الجهة الوحيدة التي يحق لها امتلاك واستخدام القوة المسلحة.
لا يلقى هذا الشعار قبولاً اجماعياً. هناك مطالب بالانتقام.. أو على الأقل بالمحاكمة والعقاب. وقد أثبتت ذلك بنتائج الاستفتاء العام، حتى بعد ان وافقت الحركة – فارك- على تسليم أسلحتها، وتسريح مجنديها الذين يبلغ عددهم 15 ألف رجل وامرأة، وحتى بعد ان اعلنت حلّ تنظيماتها المسلحة، وكذلك بعد أن تعهدت بأن تتلف حقول المخدرات في المناطق التي أحكمت السيطرة عليها طوال السنوات الماضية. مثل هذه الأسئلة تطرح على الحركات المتمردة الأخرى في العديد من دول العالم، وإن اختلفت مبادئها وعقائدها وتوجهاتها.. فالعالم يراقب ما يحدث في كولومبيا.. لأن النتيجة هناك تعني دولاً عديدة أخرى في آسيا وافريقيا.. وفي الشرق الأوسط.
بقلم : محمد السماك
copy short url   نسخ
13/10/2016
2704