+ A
A -
في مقاله الذي جاء تحت عنوان «أدب الرسائل في ذمة التكنولوجيا» (عدد 14 أغسطس 2016)، تحدث الأستاذ سمير البرغوثي في زاويته المقروءة «نبضة» عن المرحوم أدب الرسائل الذي نفتقد حرارة الذوبان احتراقا به احتراقا جميلا وفاتِناً كما تذوب حروفُه بين أظرفته. لكن لماذا نطلق عليه أدبَ الرسائل؟! إنه كل ما جاء من حروف تتطوَّح ثمالةً أو مرارةً وشجنا بين طَيَّاتِ «كِتَابٍ» كما كان يُطلِقُ السابقون على الرسالة، مع أن أكثر أغراض الرسالة سَرَيَانا هو الإفصاحُ عن الحُبِّ ووصفُ لَوَاعِجِه ومُكابَداتِه. مَن مِنَّا (عن الإناث أتحدث) لم تسعدْ بِـ (أو تُصْدَمْ في) رسالة ورقية زُفَّتْ إليها على جناح الشوق، زُفَّتْ إليها بكل الحُبّ (الحقيقي أو الْمُزَيَّف)، تتقدَّمُها وردةٌ تعبق بعطرها الخُرافي، أو تتأبَّطُها ربطةُ عنُقِ قارورةِ عطرٍ أنيقةٍ فاخرةٍ، ولسانُ حالِ الرسالةِ: «افتحوا البابَ.. افتحوا الباب يا أحباب! عصفورُ الحُبّ يُحيّي ويُقَبِّلُ الأيادي والأقدامَ والأعتاب»..
كلّهن يفتحن الرسائل وهُنَّ لا يقوين على الصبر دقيقة، منهنّ من تقرأ الرسالةَ وهي تذوب كمكعب زبدة، منهنّ من تقرأ الرسالةَ ودخانُ الغضب وشراراته يتطإيران من عينيها استياءً من هذا الوَقِح الذي تجرّأ وفَعَلها بها، منهن ومنهن، وغيرهن كثيرات..
في الرسالة تكتشفين أنتِ وتكتشف أنتَ الشاعرةَ أو الشاعرَ، الشاعرة والشاعر اللذين ربَّاهما الحُبُّ وصقلتْ موهبتَهما لوعةُ الحُبّ ونارُه التي تجعلُكَ تتمدد من جحيم إلى جحيم: جحيم الإصرار على الحُبّ، وجحيم الفِرار من الحُبّ.
شأن وأي شأن بَلَغَتْه الرسالةُ!
الرسالةُ تُعادِلُ وردةً تمدها بحنان لِمَنْ تُحِبُّ، فكلما تَضَوَّعَ أريجُ وردتك سَكَنْتَه أنتَ وسكنَك هو.. وعند بابكما خَيَّمَ الشوقُ، وبالمثل خَيَّمَ الشوكُ: شوكُ النوى، شوكُ الإكراه، شوكُ القَدَر وقِسْ على ذلك..
عند العامة، لا تأخذ الرسائلُ أكثر من حجمها الطبيعي. لكن شَتَّانَ بين العامة والخاصة. أما المقصود بالخاصة هنا، فهُمُ الأدباء والشعراء والروائيون والمثقفون باختصار.
إذا كان من السهل عليك أن تُمَزِّقَ رسالةً أو تتركها تتلاشى شيئا فشيئا في درج من خزانتك حتى يمحوها غبارُ الأيام، فإنه من غير المعقول أن يتركَك الآخرون لتفعل برسائلك تلك ما كنتَ تنوي فِعْلَه بها إذا كنتَ من رجال الشعر والأدب والسياسة وما إلى ذلك..
قبل كل شيء، لِنَرَ كيف تقدم لنا الرسالة نفسَها؟
الرسالة فن من فنون الكتابة يعبر عما يختلج في الوجدان ويَرُومُ بَثَّ مشاعر تَسْبَحُ في الفَلَك الذي يدور فيه ما تَتقلَّبُ فيه جوارحُك، فإذا بينبوع البَوْح (الرسالة) يفيض بأعذب وأرقّ وأَلَذّ ما يمكن أن يخفقَ به خافق أو يفيض بأشقى وأوجع ما يُمكن أن تَدْمَعَ له العينُ الثالثة: قلبُك.
الغموض في هذا المدار مرفوض، إذ من خصائص كتابة الرسالة الوضوح، اللهم بعض التجاوزات التي يتورط فيها أهلُ العشق والهوى، لماذا؟ لأنهم محكومون بقوة قانون العشق المجنون الذي يُسَيِّرُهم كعبيد ويُملي عليهم ما يقولون، ولا غرابة أن تأتي أقوالُهم (على ظهر الرسالة) انعكاسا مرآويا لما هُمْ به يشعرون.
من أكثر الرسائل التي تمّ ذكرها في تاريخ الإنسانية شُهرةً نجد «رسالة الغفران».
فماذا عن رسالة الغفران؟!
إنها رسالة لأبي العلاء المعري تصف الأحوال في داري النعيم والجحيم. وكان المعري قد ردّ بها على رسالة أخرى للشاعر بن القارح، وفيها يدخل في حوار مع الشعراء والأدباء ومَن جاورهما في العالَم الآخر.
على أن من المعروف أن رسالة الغفران هذه هي التي استمدَّ منها الشاعر الإيطالي دانتي DANTE كتابَه «الكوميديا الإلاهية» الذي يُعَدُّ بدوره وصفا للحياة في العالَم الآخَر.
أما عن رسالة الغفران، فلنا وقفة خاطفة مع شاهد من الرسالة:
ويقول «لبيدٌ»: سبحان الله يا أبا بصير! بعد إقرارك بما تَعْلم، غُفِرَ لكَ وحصلْتَ في جنةِ عَدْنٍ؟ فيقول مولاي الشيخ متكلما عن «الأعشى»:
كأنك يا أبا عقيل تعني قوله:
وأشربُ بالريف حتى يُقالَ: قد طال بالريف ما قد رجنْ..» (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، تحقيق وشرح الدكتورة عائشة عبد الرحمان «بنت الشاطئ»).
والجليُّ من خلال النص القصير المستشهَد به أن صاحب رسالة الغفران يستحضر أسماء بعض الشعراء والأدباء الذين رسمَتْهم مُخَيِّلَتُه يجدفون في بحر الآخرة، ويكفي أن نذكر تاريخ لبيد والأعشى الأدبي.
تنوعت الرسائل في أغراضها، فكانت هناك رسائل العشق والاعتراف بالتقلب فوق جمرة الهوى، ورسائل العتاب بين الأحبة والأصدقاء، ورسائل التعزية، ورسائل طلب العمل أو الالتحاق بالجامعات ورسائل التهديد، والرسائل السياسية..
عن هذه الأخيرة (الرسائل السياسية)، سال حبر كثير. ويمكن أن نقف على وجه الإشارة الخاطفة عند الرسائل التي كان يكتبها أهل السياسة أو غيرهم ممن وقعوا في مصيدة السياسيين.
وفي هذا الشأن نستشهد بنموذج قصص للرسائل التي كتبها العالقون بحبال السياسة من أهل الفن في حقبة سابقة.
وليكن أول الخيط القصة التي حدثت بين الفنانة برلنتي عبد الحميد (التي أدت دور البطولة بتفوق في الشريط السينمائي «رنة الخلخال») والمشير عبد الحكيم عامر الذي جمعه بها زواج عرفي وشخصيات سياسية أخرى كما ورد في كتاب: «أهل الفنّ وأهل السلطة، فنانات وفنانون في حياة رؤساء مصر».
إنه الكتاب الذي يروي فيه طاهر شلبي حكايات غريبة جدا دارت في فضاءت مغلقة شَغلَها السياسيون، ولا مجال لسرد تفاصيل منها نحن في غنى عنها..
رسائل أخرى تمت في إطار من الخصوصية، منها رسائل المرضى إلى من يسهرون على علاجهم. ولنقف هنا عند رسالة سيدة مثقفة كانت تعاني من أسلوب من التفكير الدافع إلى الاضطراب:
«والشيء الآخر الذي أريد أن تعلمه يا دكتور ابراهيم، هو الخوف الدائم والوحدة والاكتئاب، وعدم التأقلم مع الوضع الجديد، ولا أدري إلى متى سأظل على هذا الوضع.. أنظر إلى أطفالي يزداد حزني، يأتي الليل بطوله أخاف النوم خوفا من الموت.. أفكر بأهلي ومشاكلهم.. أفكر بزوجي أزداد تعاسة.. أحاول قدر الإمكان إخفاء المشاعر الحزينة.. أحاول أن لا أكون ضعيفة أمامه بل أتقمص شخصية (...) (ذكرت اسمها) الأديبة والشاعرة والقارئة الممتازة لأوازي مرتبته العلمية» (د. عبد الستار ابراهيم، كتاب الحكمة الضائعة، الإبداع والاضطراب النفسي والمجتمع).
إنها رسالة مؤثرة، وفوق أن صاحبتها مريضة، لا ننسَ أننا أمام أديبة لها مكانة خاصة، لكن لننظر أي ثمن تدفعه مقابل أن تحظى بهذه المنزلة في غياب الإحساس بالتوازن النفسي والعاطفي الذي قادها إلى قلب عيادة معالج نفسي يتجاوب مع صرخاتها المبثوثة في صورة رسائل.
أما في سياق العشق والهوى، فقد احتلت الرسائل الصدارة. وهذا بن زيدون العاشق المتيم بشاعرته ولادة بنت المستكفي يصب قالبَ العشق والصبابة (اللذين أغرقا وجدانَ صاحبة القلب المسكون) في شعر غزلي تحتار له العينُ إعجابا وانبهارا ويصرخ القلبُ قُبَالَتَه غيرةً في زمن أنصاف الرجال:
«أضحى التنائي بديلا عن تدانينا/ وناب عن طِيب لقيانا تجافينا
بِنْتُم وبِنَّا فما ابْتَلَّتْ جوانحُنا/ شوقا إليكم، ولا جَفَّتْ مآقينا
حالتْ بفقدكمُ أيامُنا، فغَدَتْ/ سُودا، وكانت بكم بِيضا ليالينا
أن الزمان الذي ما زال يضحكنا/ أنسا بقربكمُ قد عاد يُبكينا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسْقِ به/ مَنْ كان صرفَ الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بَلِّغْ تحيتنا/ مَن لو على البعد حيّا كان يحيينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا/ سيما ارتياحٍ، ولا الأوتار تلهينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا/ إن طالما غير النأيُ المحبينا
أوْلي وفاءً وإن لم تبْذلي صِلَةً/ فالذكرُ يُقنعنا والطيفُ يُبكينا» (ابن زيدون).
أوهناك حرقةُ عشقٍ ولوعةٌ أعمق من هذه التي ضربتْ صاحبَنا بن زيدون كما يَضْرِبُ التسونامي ضربَتَه؟!
أوهناك حرارة إحساس أكثر من هذه التي تُذيب القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي؟!
وهذا شيء من رسالة بن زيدون المعذَّب بحمامته ولادة (يقول على لسانها) إلى منافِسِه في السياسة ابن عبدوس الذي شَوَّشَ على حبه للمرأة الحُلم وَلاَّدة:
«أما بعد، أيها الْمُصاب بعقله، المورَّط بجهله، البَيِّنُ سَقَطُه، الفاحش غلَطُه.. الأعمى عن شمس نهاره، الساقطُ سقوطَ الذباب على الشراب.. فإن العُجْبَ أكْذَب، ومعرفةَ المرء نفسَه أصوب..» (جمال الدين بن نباته، كتاب: سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون).
وكما يظهر من خلال المقتطف السابق، فإن ابن زيدون، في ما يقوله على لسان من أشقتْ قلبَه بحبها، يكنُّ فائضَ الكراهية لابن عبدوس الذي اقتحم حياته العاطفية وأعاقَ خلوةَ قلبه بمن تُعَمِّرُه. لذلك كان من الطبيعي أن يكيل له بن زيدون الشتائمَ والإهانات، وأبسطها أنه (ابن عبدوس) لا يساوي شيئا..
الرسالة، سواء أكانت رسالة حُبّ أم سوى ذلك يصبح لها مع الأديب شأن آخر. والشأن نفسه يكون لها مع جمهور المتلقين المتعطش لكل حرف يشي بما يمكن أن يشي به من صغيرةٍ وكبيرةٍ تلفحُ خَدَّ قتيلِ العشق بريح الجَوَى..
هل تصورتم أن يكون هناك أدباء ماتوا ومازالت سِيَرُهم حية عطرة تتداولها الألسنُ وتكشف ما جرى بينهم وكان؟
هل تصدقون أن هناك علاقاتٍ عاطفيةً قوية وجبارة نشأت بين أديب وأديبة فرقتهما الحدودُ الجغرافية وجمعتهما الرسائلُ لتربطهما برباط الحُبّ المقدس؟!
عن هذا وذاك وغيرهما لنا وقفات بإذن الله. لكن يكفي أن أُذَكِّرُكُم هنا بمقالي «إيما شهيدة الحب» المنشور بالوطن عدد «7208»، وكانت إيما هذه بطلة رواية «مدام بوفاري» التي كتبها غوستاف فلوبير بكل التميز. بيت القصيد فلوبير هذا الذي كانت تجمعه بالكاتبة «جورج ساند» علاقة خاصة كشفت عنها مراسلاتُهما.
لكن مَن تكون جورج ساند؟!
ولماذا سميت «جورج ساند»؟!
ما علاقة جورج ساند بالعبقري فلوبير؟!
أي عالَم شفاف ومرهف يتسع لكائنين بلوريين يجري بينهما نهرُ السرد؟!
أسئلة كثيرة تُداعبُ فِكرَك وتُحَفِّزُ مُخَيِّلتَك لا يهمّ ان تُلملِمَ خيوطَ أجوبتها بقدر ما يهم أن تطرحها.
لا تنسَ عزيزي أن طرح السؤال هو أهم تمرين يليق بك، بل يجدر بك، التعود عليه إن شئتَ الغوصَ بقراءاتك إلى أبعد ما تشتهي وتتمنى.
قراءة طيبة وارتماء حالِم في حضن الحرف، ولنا موعد السبت المقبل بإذن الله لإتمام سفرنا التأملي في ما أملتْهُ علينا أوراقُ سمير البرغوثي.
copy short url   نسخ
17/09/2016
2168