+ A
A -
عرفت البشرية أنظمة حكم مختلفة، عبر التاريخ الطويل، لتتوصل في النهاية إلى أن الديمقراطية أفضل صيغة تضمن الانتقال السلمي للسلطة، وتجنب الدولة والمجتمع الثورات والانقلابات وتحقق النهوض والتقدم والازدهار، كونها تتيح الفرص الواسعة لحريات الفكر والتعبير عن الآراء المختلفة ومناقشتها، وصولاً إلى الأصوب والأسلم في مختلف المجالات التنموية، وتحمي الديمقراطية الدول، الأخطار الداخلية والخارجية، لأن القرارات السياسية تكون مدروسة بعناية، ولن تكون صادرة عن لحظة غضب أو طيش مفاجئ أو رد فعل انتقامي أو تسرع.
لقد اكتسب النظام الديمقراطي، أهمية متزايدة في تحقيق التنمية والارتقاء، وفي الدول الديمقراطية نلمس آثار هذا الرقي في كافة الميادين: الفكرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والأخلاقية.
لكن الديمقراطيات المعاصرة، اليوم، تواجه تحديات جديدة، يخشى أن تعصف بقيمها الليبرالية العريقة، وتزلزل ثوابتها التاريخية، وتهدم مبادئها الراسخة، وتغير ثقافاتها المنفتحة، في ظل اكتساح المد اليميني المتعصب، وانتشار موجات الكراهية ضد الآخر، وتصاعد الخطاب الشعبوي العنصري والمعادي للقيم الليبرالية، سواء في المجتمعات الأوروبية أو الأميركية.
القيم الليبرالية، في عالم اليوم، أصبحت مهددة بالتضييق والانتهاك، حتى من قبل الحكومات والأحزاب الليبرالية، التي تواجه منافسة شديدة من قبل الأحزاب اليمينية المتطرفة،التي تسعى جاهدة لكسب الرأي العام عبر الخطاب الشعبوي المهيج لغرائزه ضد الآخر المتهم بالإرهاب، والمثير لمخاوفه من سياسات الهجرة والأبواب المفتوحة، هذه الحكومات والأحزاب، في ظل المنافسة الانتخابية الحامية، وتحت ضغط كسب الأصوات، تجد نفسها في مواقف انتهازية، تضطر فيها إلى ممالأة الشارع السياسي بهدف كسب صوته، ولو على حساب قيمها ومبادئها وشعاراتها الليبرالية، ولا أدل من تصريح المستشارة الألمانية أنغيلا مركل التي عبرت عن إدانتها لدول أوروبية رفضت استقبال لاجئين لأنهم مسلمون!.
لولا أزمة الديمقراطيات المعاصرة لما كنّا اليوم أمام ظاهرة ترامب، هذا المرشح للرئاسة الذي نجح في الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري وعلى تأييد قطاع كبير من الناخبين الأميركيين، في بلاد عرفت بأنها أرض الحريات والقيم الليبرالية والترحيب بكل من يلجأ إليها من الجماعات الإثنية والدينية التي تعاني تمييزاً أو اضطهاداً وظلماً في بلادها، كيف نجح هذا المرشح الرئاسي المعادي للتراث الديمقراطي الأميركي، في مجتمع عريق في الديمقراطية؟!
وبحسب تقرير لمراسل الحياة اللندنية في واشنطن، تصدرت العنصرية السجال الانتخابي الأميركي وتحولت قضية رئيسية في جدول المرشحين الرئاسيين الديمقراطي والجمهوري، والنزعة السائدة في مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، هي إبراز دور متغير الانتماء العنصري للناخب أو دور معتقداته الدينية في اختيار الرئيس المقبل للولايات المتحدة.
لولا محنة الديمقراطيات المعاصرة. لما فازت الشعبوية الكارهة للآخر في بريطانيا، مهد الديمقراطية، بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، في مغامرة أو مقامرة بمستقبل المملكة المتحدة وأوروبا!
لولا مناخ الكراهية السائد في أوروبا، ما كان لأمر تافه مثل لباس البوركيني أن يصبح قضية تشغل الرأي العام الفرنسي، وتتبارى مدن الشواطئ الفرنسية في منعه، حتى يتدخل مجلس الدولة ليقرر أن الحظر ينتهك الحريات الدستورية!
الديمقراطيات واجهت تحديات عديدة في الماضي، من قبل النازية والفاشية والفوضوية، لكنها نجحت في تجاوزها، واليوم تتعرض لتحديات جديدة، فهل تنجح في مواجهتها والتغلب عليها؟
في مقاله التحليلي العميق والقيم، يرى وحيد عبدالمجيد، أن أزمة الديمقراطية المعاصرة، أعمق مما تبدو ظاهراً، وأسبق من المد الإرهابي، إذ تعود بداياتها إلى أكثر من عقدين، ترجع إلى حصول اختلالات داخلية تراكمت، بسبب جمود يصيب النظام الديمقراطي في بعض المراحل ويضعف قدرته على معالجة الأزمات، ويحدث هذا الجمود عندما تضعف ديناميته، فيفقد أهم ما يميزه عن الأنظمة الاستبدادية: القدرة على تصحيح أخطائه، وعجز الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية عن تجديد خطاباتها التي انحسرت الفروق بينها، فصارت متقاربة ورتيبة وخالية من الرؤى الملهمة التي تخلق حيوية في المجتمع، وعاجزة عن ضخ دماء جديدة، مما يؤدي إلى إعادة تدوير نخب محدودة في مستوياتها القيادية، فتتراجع معدلات المشاركة السياسية، ويستغل القوميون المتطرفون، مناخ الفراغ، ليصبحوا أكثر قدرة وتأثيرا وشعبية.

بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
05/09/2016
2987