+ A
A -
«لم يفتّ في عضده» نقرأ هذا في سيرة شخص مثابر قوي العزيمة تواجهه الصعاب، وقد تأتي «ما فتّ ذلك في عضده» ومن النادر أن نقرأها بالفعل المضارع «لا يفت في عضده» ومن النادر أيضاً أن نقرأها بغير صيغة النفي، فما معنى هذا المصطلح؟
نلاحظ أن في الجملة كلمتين «فت وعضده» أما فعل فت فيعني أن يأخذ المرء الشيء بأصابعه فيجعله فُتاتاً أي دُقاقاً فهو مفتوت وفتيت، ألا تتذكرون الأكلة الشعبية المشهورة «الفتة» بأنواعها المختلفة؟ ونتذكر أيضاً كلمة شائعة جداً هي «الفتات» وترد غالباً مع المائدة «لم ينل إلا فتات المائدة» أي رموا له بتوافه الأشياء بينما أخذوا نفائسها.
والكلمة الثانية هي «العَضُد» وقد تكون بحركات أخرى لكن أكثر العلماء قالوا إن العَضُد هي الأصح، وهو ما بين المرفق والكتف، وهي مؤنثة دائماً، ولكل إنسان عضُدان والجمع أعضاد. وفي صفته صلى الله عليه وسلم: كان أبيض معَضَّداً. وعضده يعضده عضدا: أعانه (هل تذكرون المعاضيد؟). وفي القرآن الكريم «سنشدُّ عضُدَك بأخيك» أي سنعينك بأخيك، ولفظ العضد على جهة المثل لأَن اليد قِوامُها عَضُدُها. وكل مُعين عَضُدٌ. وعَضُدُ الرجلِ: أَنصاره وأَعوانه. والعرب تقول: فلانٌ يَفُتُّ في عضد فلان ويقدح في ساقه، فالعضد أَهل بيته وساقه نفسه.
كثيراً ما نقرأ «بعجره وبجره» ونحسب أنها بمعنى «بقضه وقضيضه» والحقيقة أن المصطلحين مختلفان جداً، فالثاني مثل «جاؤوا بقضهم وقضيضهم» يعني أنهم جاؤوا جميعاً، والقض: الحصى، والقضيض: ما دقَّ منه وصغر. أما العجر فتعني الحجم والنتوء، يقال: رجل أَعْجرُ بَيِّن العَجَر أَي عظيم البطن. وعَجِر الرجلُ يعْجَر عَجَراً أَي غلُظ وسَمِن. وتَعَجَّر بطنُه: تَعَكَّنَ. وروي عن عليّ، كرَّم الله وجهه، أَنه طاف ليلة وقعة الجمل على القتْلى فوقف على طلحة بن عبيدالله وهو صريع، فبكى ثم قال: عز عليّ أَبا محمد أَن أَراك مُعَفَّراً تحت نجوم السماء، إِلى الله أَشكو عُجَرِي وبُجَري، أي همومي وأَحزاني، ويقال أَفضيت إِليه بعُجَرِي وبُجَرِي أَي أَطلعتُه من ثِقتي به على معايبي.
وأَصل العُجَر العُرُوق المتعقدة في الجسد، والبُجَر العروق المتعقدة في البطن خاصة.
وقيل: هو خَرَز الظهر، والعُجْرَة: نَفخة في الظهر، فإِذا كانت في السرة فهي بُجْرة، ثم انتقلا إِلى الهموم والأَحزان.
وقد تسمع حتى على ألسنة العامة «حيّاك الـلـه وبيّاك» ويضيف بعضهم إليها «وجعل الجنة مثوانا ومثواك» أما الإضافة فلا نبحثها الآن، لكننا نتحدث عن الدعاء: حياك الله وبياك. أما حياك فنعرفها من التحية، والتحية المُلك ومنه «التحيات لله» ويراد بها: الملك لله، وفي «بيّاك» اقوال شتى، منها: اعتمدك الله بالملك والخير، ومنها: معناه كمعنى حياك وهو كقولهم بعداً وسحقاً، وقيل: وبوأك منزلاً، فتركت العرب الهمز وأبدلوا من الواو ياء ليزدوج الكلام فتكون بياك على مثل حياك، وقالوا: بياك معناه حياك وقربك وقالوا: معناه قصدك بالتحية، وقال الأصمعي: معنى بياك أضحكك، وقيل إن قابيل لما قتل هابيل مكث آدم سنة لا يضحك، فأوحى الله إليه حياك الله وبياك، قال: وما بياك؟ قال: أضحكك، فضحك.
تحدثت مرة عن المصطلح «فلان نسيجُ وحدِه» وهو الوحيد في اللغة الذي وردت فيه «وحدِه» وهي تأتي منصوبة دائماً. وتذكرنا كلمة «نسيج» بتعبير آخر شائع في الأدب «نسج على مِنواله» أي قلده وسار على طريقته، والمِنوال: النول الذي ينسج عليه النسّاج، وقيل هو الحائك أو النسّاج نفسه.
ومن جذر «نول» فعل نال، وأصل الألف هنا واو، ومنه النوال أي العطاء، ومن المضاعفات «نوّله» ولكنني لم أقرأ أبداً «نال نولاً» بمعنى نسج إلا عند كاتب شاعر ناقد حين قرأت له «ونوَل على منواله».
كثيـراً ما نقـرأ في الكتب القديمة (ونادراً في الكتـب الحديثـة) هذه العبارة «ودون ذلك خرط القتاد» ويقولها الجهلة من أنصاف المتعلمين «خرق القـتاد» ربما لأنهم تصوروا الخرق أقوى، وربما لأن «الخـرط» تعني الكذب، ويقـولون «خرّاط» بمعنى كذاب، ولو علموا ما هو القتاد لما قبلوا «خرق القتاد» وللخرق معان ومشتقات كثيرة قد نعود إليها في مداعبات أخرى. أما القول «ودونه خرط القتاد» ففيه كلمتان: الخرط والقتاد.
الخـرْط: قـشـرك الورق عن الشـجر اجتذابـاً بكفـك، وخرطـت العود أخرِطه وأخرُطه خرطا: قشـرته. وخرَط الشـجرة يخرِطها خرطاً انتـزع الورق واللحاء عـنها اجتذاباً، وهـو أن تـقبض على أعلاه ثم تمر يدك عـليه إلى أسـفله. تخيل أنك تـمسـك عوداً من الملوخية، وبدلاً من أن تنتزع الأوراق واحدة واحدة، تمسك أعلى العود بيسراك، ثم تمرر يمناك على العود كله، فتنتزع الأوراق كلها.
أما المصيبة فأن تحاول هذا مع غصن «القتاد» وهو شجر صلب وله شوك كالإبر، وقالوا في تعريفه أيضاً: هو قضبان مجتمعة لا ينفرش منه شيء، كل قضيب منها ملآن ما بين أعلاه وأسفله بالشوك القاسي. هل أدركنا الآن لماذا قالوا «دونه خرط القتاد»؟ لأن خرط غصن من القتاد سيمزق الكف تمزيقاً.
فوجئت بأحد الكتاب يقول في مقال سياسي «لا مندوحة من الانفكاك» وكثيراً ما نقرأ هذا المصطلح في الكتب القديمة، فما معناه؟
الندْح: الكثرة والسعة والفسحة وما اتسع من الأرض، ونقول: إنك لفي ندحة من الأمر ومندوحة منه، وأرض مندوحة: واسعة بعيدة. وقالوا: لي عن هذا الأَمر مندوحة، أي متـَّـسَع، وفي حديث عمران بن حُصَين: إِن في المَعاريضِ لمَنْدوحةً عن الكذب، أَي سعة وفُسحة، وقيل إن أُم سلمة قالت لعائشة، رضي الله عنهما، حين أَرادت الخروج إِلى البصرة: قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، أي لا توسعيه ولا تفرقيه بالخروج إِلى البصرة، أَرادت قوله تعالى: «وقَرْنَ في بُيوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ». ومع أن المصطلح عربي صحيح فإنني كنت أفضل ألا يلجأ الكاتب إليه لأن هذه المصطلحات والتعابير صارت غريبة عن الناس، وكان الأفضل له أن يقول «لا مفر» فهو أسهل.
وفوجئت بكاتب آخر يقول «وهذه لعمري مصيبة» والقول «لعمري ولعمرك» يرد كثيراً في الكتب القديمة، ولكننا نادراً ما نقرؤه في الكتابات الجديدة. والقول «لعَمرُك» قسم، كأَنه قال: لعَمْرُك قسمي أَو يميني أَو ما أحلِف به، قال تعالى في سورة الحجر: «لعَمْرُك إِنّهم لفي سَكْرتِهم يَعْمَهُون» وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: لَعَمْرُك، أَي لحياتك.
قال: وما حَلفَ الله بحياة أحد إلا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. وينكر النحويون هذا ويقولون معنى لعَمْرُك: لَدِينُك الذي تَعْمُر، وأَنشدوا لعمر بن أَبي ربيعة:
أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيّا سُهَيْلاً، عَمْرَكَ اللهَ، كيف يَجْتَمِعان؟
وقالوا: عَمْرَك اللهَ، عبادتك اللهَ، وعَيْشِك، وإِنما يريد العُمْرَ. وقال آخرون: سأَلتُ الله أن يُطيل عُمْرَك لأَنه لم يُرِد القسم بذلك. وقال الجوهري: معنى لعَمْرُ الله وعَمْر الله أَحْلِفُ ببقاء الله ودوامِه.
إنها لعمري ولعمرك أجمل اللغات وأرقاها، وإننا عمرَك الله لمقصرون جداً في خدمتها وصيانتها والحفاظ عليها.
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
09/08/2016
1767