+ A
A -
من الملاحظ أنه يتكرر سلوك الانـتظار والتردد الأميركي مع كل حدث أو أزمة في الشرق الأوسط وربما في العالم خاصة في فـترة رئاسة أوباما التي شارفت على الانـتهاء فهل ذلك يأتي من منطلق الاحتواء أم الانسحاب؟! في السياسة، هناك تـفاوت بين الاحتواء والانسحاب فالنهج الأول (الاحتواء) يعني وجود استراتيجية ثابتة تخلق مواقف من الأحداث بما يسهل تحقيق الأهداف والغايات الكبرى.
أما النهج الثاني (الانسحاب) فيدل على أنه لا توجد استراتيجية محددة لكن الأمور تسير وفق التعبير الدبلوماسي «عدم التورط» ومعناه الحقيقي «الهروب أو الانسحاب»!
هل الانسحاب هو التبسيط الأميركي لمواجهة عواصف المنطقة أم إن الاحتواء هي الاستراتيجية الأميركية الجديدة لمعالجة ملفات الشرق الأوسط؟
على كل حال، التردد والغموض هو السلوك الثابت لأميركا في الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة لكن تـظل هناك دلائل كافية تدعم نظرية الاحتواء كما أن هناك شواهد حقيقية على سلوك الانسحاب الأميركي من المنطقة وعدم الرغبة بالتورط العميق في مشاكلها وأحداثها وتحول واضح نحو الاكتـفاء بالوكلاء سواء من داخل منطقة الشرق الأوسط أو من خارجها لتحقيق الاستراتيجية الأميركية في المنطقة! كان سلوك الاحتواء واضحا في الانـقلاب العسكري في تركيا وفي انقلاب مصر من قبل! في حين كان الانسحاب أكثر وضوحا في الأزمة السورية وتراوح الموقف الأميركي بين هذه وتلك في الأزمات الأخرى خاصة أزمة ليبيا واليمن أما ملف العراق فإن له قصة أخرى مخـتلفة تماما!
أحدث المواقف كان موقف الإدارة الأميركية من المحاولة الانـقلابـية الفاشلة في تركيا حيث اصطبغ السلوك الأميركي بالانـتظار والتردد ثم جاءت المجاملة السياسية لأردوغان وحكومته مع محاولة إخفاء كل ما يشير إلى مواقف أخرى مثل الترحيـب أو المساعدة أو التورط بدعم الانـقلاب نـفسه! كان واضحا لكثير من المحللين السياسيين أن أميركا مارست مع تركيا عادتها السياسية الشهيرة التي تـقوم على الانـتظار ومعرفة إلى من تؤول القوة والسلطة ثم اتخاذ موقف لحماية المصالح الأميركية. وهذا ما حدث في أعقاب الانـقلاب العسكري في مصر حيث انـتظرت أميركا بدون رد فعل حقيقي حتى تمكنت من قياس رد فعل المعارضة السياسية في مصر وعندما لمحت شواهد ثبات الانـقلاب أعادت الأمور السياسية إلى مجاريها ليس مع مصر فحسب بل مع مصر ودول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى مرصوصة على الرف الأميركي!
في سوريا الأمر مختلف تماما فالصورة الكبـيرة تـشي بالانسحاب الأميركي من محاولة التورط أكثر تحت قـناعة مؤكدة بأن الاستراتيجية الأميركية في سوريا تؤيد (حماية «نـظام الدولة» حتى لا تـتغول «الدولة»)! كلمة الدولة الأولى تـشير إلى نـظام الأسد والدولة الثانية تـشير إلى تـنظيم الدولة! في الحقيقة أن الانسحاب الأميركي الذي يتحدث عنه العديد من المحللين السياسيين هو ليس انسحابا مكتمل الأركان لأن أميركا مازالت تدير بعض الملفات في الأزمة السورية عن طريق الوكلاء ومنهم الوكلاء الصغار مثل قوات سوريا الديمقراطية وقوات الحماية الكردية والوكلاء الكبار مثل روسيا وإيران، أو أيه قوات أو دول أخرى من الممكن أن تستـفيد منهم أميركا سواء على المدى القصير أو الطويل!
المشكلة الكبرى التي تواجه منطقة الشرق الأوسط هي أن أميركا ظلت تراوح طويلا بين الاحتواء والانسحاب فضيعت كل وعودها المتعلقة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وخذلت الشعوب وضيعت الكثير من هيبتها وقدرتها على التدخل الإيجابي وبقي لها القليل من القدرات والكثير من اللعنات! لقد ضاعت ملامح الاستراتيجية الأميركية بعد التوقيع على الاتـفاق النووي مع إيران والدليل على ذلك أن هناك قرارات وتوجهات أميركية تعلن أو تـقرر ثم تلغى وتحالفات تـقوم ثم تـبرد ومبادرات تبني ثم تُـنسى! على سبـيل المثال وافقت أميركا على تحديد (منطقة آمنة) في الشمال السوري ثم بلعت موافـقـتها وكذلك تحمست للتحالف العسكري الإسلامي ثم بردت وكانت تدّعي مواجهة التمدد الروسي والإيراني في المنطقة ثم تمددت معهم في السرير نـفسه!
من ناحية أخرى، لا يستطيع بعض المحللين السياسيين نسيان خطاب أوباما في جامعة القاهرة والوعود الخلابة التي قالها ثم بلعها، وقد لا يستطيعون كذلك نسيان وعود أوباما التي تفـنن في سردها مثل معالجة ملفات التعذيب والقـتل العشوائي بطائرات بدون طيار وإغلاق سجن جوانتانامو الخ فكانت وعودا سرابـيه مثلها مثل حكاية «الخط الأحمر» لمن يستخدم السلاح الكيماوي ضد المدنيين! بعد الاتـفاق النووي مع إيران ظلت الاستراتيجية الأميركية تراوح ما بين احتواء بعض الملفات وتبريد ملفات أخرى والانسحاب البطيء من بعض الأزمات والتورط الكثيف في أزمات أخرى لكن الثابت هو الغموض وقد يطلق عليه لاحقا مصطلح «الغموض الخلاّق» على وزن الفوضى الخلاّقة!
د. صنهات بن بدر العتيـبي
copy short url   نسخ
26/07/2016
2775