+ A
A -
داليا الحديدي
لم ييسر لابن آدم من خداع أسهل من خداع النفس. فكم يخادع المرء حاله، فيظلم إخوته بالامتناع عن منح شقيقته ميراثها، فتعاني الضنك، ثم تراه بكل عيد، يجاهر بإرسال شاة الأضاحي لها.
هذه المجاهرة بهدية الأضحية لا تهدف لدرء خسيسة حرمان رحمه من الميراث فحسب، لكنها بالأساس معنية يإقناع نفسه أن شقيقته التي ترفض استلام الأضحية، هي التي تصمم على قطيعته رَغم محاولاته التودد لها.
وكم من متجبر على زوجته عمرًا كاملاً، يقتلها اهمالًا وقسوة في اليوم مئات المرات، قتلًا وصفه جبران بقوله:
«وقاتل الجسم مقتول بفعلته.. وقاتل الروح لا تدري به البشر».
وما إن تموت عقيلته، فيرثيها بالدمع السخين وبكلمات ما سمعت المسكينة منها عشر معيشيرها.
تُراه يرثيها، أم يُرمم أشلاء صورته أمام ذاته ليستوي نفسيًا. لذا، يتفنن في إدهاش محيطه، فتراه يمنع دخول «القلقاس» البيت، ويتعامل معه كثمرة محرمة، لأن فقيدته لم تكن من آكليه. ثم يُعلن أنه ما عاد يستطيع شراء البوظة، لاعتياده على تناولها فقط مع المرحومة من «بكداش».
وكم من مشاحنات بين أبناء عمومة، ثم ترى كبيرهم في الظلم، مُصِرًا على تصوير نفسه كمن طار فرحًا لنجاح ابن عمه لنيله شهادة علمية، فيما يبدي آخر إصرارًا فريدًا للزج بواقعة رقصه في عرس قريبه كبرهان محبة.
ثم هناك من يصف لك تفاصيل المحادثة الهاتفية، وكيف ارتعش صوته ارتعاش مرضى «باركنسون» مع أول «الو» سمعها من ابن العم، ليدمغ بذلك عمق محبته له رغم الخلافات المادية فهذه نقرة وتلك نقرة.
فمن البشر من هم على استعداد لـ:
إرعاش أصواتهم خلال المحادثات الهاتفية.
للتصفيق حتى تلتهب الأكف.
للبكاء على أطلالك كما لو أنها تمطر في ديسمبر بمدينة «ويلز».
للرقص في عرسك وهز هيبتهم بمقدار 9 ريختر.
ولا يفوتهم تسمية مولودهم الأول على اسم من ظلموه.
لكنهم ليسوا على استعداد لإصلاح ما افسدوه عمليًا، بالتعويض عن الخسائر.
إننا أمام فئة متمرسة في التلاعب بهويتهم الفكرية والقلبية، باستخراج شهادة محبة مدفوعة بتعضيدك في حالة نجاح لا تكلفهم سوى اليسير من المشاهد التمثيلية التي تمرسوا في أدائها بالسليقة.
ويروي الدكتور «علاء الاسواني» في رائعته «شيكاغو» عن زوجة أحد المغتربين، والتي اشتكت لأهلها من سوء معاملة زوجها، فنصحوها بالصبر. فأخبرتهم أنه سكير، لا يصلي ضرّاب عنيف، فاصروا على الصبر، فصارحتهم بارتكابه للزنى، فلم يكفوا عن مطالبتها بالصبر، بل أخبروها أنهم لن يدعموها لو طلّقت. فما كان منها إلا أن جمعتهم سويًا لتواجههم ببعض، وأثبتت لهم أن زوجها يريد منها ارتكاب المعاصي.
هنالك فقط اضطر الأهل لتطليق ابنتهم، لا بنية مناصرة المظلومة، ولكن لعجزهم عن مواجهة بعضهم بعضًا متلبسين بتهمة جلل.
المدهش أن حتى عُتاة الزناة، حين يُمارسون الفاحشة، لا تساورهم مشاعر الندم، بل يتفاخرون بروايات عن فحشهم للإفصاح بشكل غير مباشر عن رجولتهم. فعُتاة الزناة يتمتعون بهوية إيمانية مشروخة جعلتهم قلما يعترفون بالإثم.
فنية الخوف من الله نادرة لدى هؤلاء.
العبرة أنه بدون جسم للجريمة، أو بدون حبل، يستسيغ البشر الآثام بالاستهبال وخداع الذات وابتكار المعاذير.
فبعض الآدميين بحاجة لـ «جلل» للاعتراف ولو أمام أنفسهم بأنهم خُطاة. إن شخصاً لا يفكر، يعيش بوهم مستعار.
كاتبة مصرية
copy short url   نسخ
28/03/2020
1689