+ A
A -
بقلم د. سعاد درير كاتبة مغربية
مذبوح الأحداق يتسلل إليكَ من نافذة اللوعة والوجد ضوءٌ بطلُه قمرُ الاشتياق، قمر هو يَجرّ لهفته على ماضٍ كان، لكنه ذاب في الفراغ قبل أن يَعِدَ بألا يترك الروحَ في أمان..
حكاية حزينة بلا عنوان ها هو يَكتبها شاعرنا الفنان، حكاية تذرف الدموع لتبوح بشيء من حرقة الذات الوَلْهَى خلف القضبان، إنها قضبان الصمت الذي يئنّ أنينا ذبَّاحا لا تَجد أمامه أنتَ إلا أن تتعاطف معه بدموع حائرة..
لتكن تلك الدموع بدايةَ موعد عُود قلبك الشجي مع سهرة عيون غائمة، عيون هي فاتَها أن تجدد عهدها للزمن «المايسترو» ذاك الذي يدربها على العزف على أوتار تدغدغ قيثارة روحك الهائمة في ملكوت الإحساس بشقاء بعض الناس..
لِنَقُل إنه ليل الوجد الذي أقسمَتْ عصافيرُه ألا تُضمِرَ المزيد من الشجن، ومتى؟! بعد أن نال من غصن الروح ما نال منه الوهَن، إنه الوهن الذي يضرب لك أكثر من موعد مع جمرة الولَه تلك التي تُفتِّتُ عظم الذات وقد استدرجتها التشظيات إلى منحدر السقوط..
ما يَفعل المذبوح حتى العظم وقد يتمته الأيام، فما عاد يدري أهو من الموتى أم هو من أحياء الأنام؟!
مرة أخرى تنطفئ شموع الشفاه ليَنطق فمُ القَدَر، وأمام القَدَر صَدِّقْ يا صديق أيامي الحلوة والْمُرَّة أن كل الأفواه تُغِْلق أبوابَها، فلا فَم يقوى على أن يقول كلمةً تُذْكَر أمام قَدَرٍ ينهى ويَأمُر..
«يحادثني الصمت في مقلتيك
ونظرتك الحلوة الذابلة
بأنك عن حينا راحلة» (عبد الرفيع جواهري).
عبد الرفيع جواهري الشاعر المتألق بحضور إحساسه يَخُطُّ على رمال الروح ما تحمله أمواج الوجدان إلى أبعد نقطة في خريطة بحر إحساس مَن يشبه الفنان الرائي من عين إبرة القلب..
إنه القلب الذي لا يَقْوى على أن تَغيبَ شمسُه، فإن هي غابَت هدَّدَتْهُ الحياة بالرحيل مع مَن يَهوى، لذلك فإن من القليل أن نقول إن ما للشاعر بقلبه يُذبح ملجأ أو مأوى بعد أن تتجمد حرارة الأنفاس وينفلت خيط الإحساس بغياب أعز الناس..
جذوة الرحيل تشتعل لينغرز في قلب الواله المجروح أكثر من خنجر تنطفئ معه شمعة الروح، وإذا بكل شيء وبكل مكان يذكره بالماضي الذي كان، لا شيء ينبض سِوى صرخة الشاعر الفنان ذاك الذي جرَّدَه الرحيل من جبّة الإنسان..
موعد مع الدموع والتيه يتجدد بعد سقوط فاكهة العشق المشتهاة في فَم الزمن لا في ثغر القلب المسكون بطيف مَن يهوى، وما أدراك بضربة تسونامي الرحيل عند مَن لا يُجيد العبور على جسر المستحيل؟!
«ترى ترحلين؟
وفي لهفاتي ولحني الحزين
يموت انشراحي
تنوح جراحي» (عبد الرفيع جواهري).
أشرعة الروح تتمزق بعد أن تُبحر القدمان في محيط الأحزان، وإذا بكل خلية تَصرخ رافضة الامتثال لسلطة قَدَرِها وقد قال كلمته الأخيرة..
لِنُقَسِّمْ الزمن الفني في رائعة الشاعر الخالدة إلى لحظتين:
- عند رصيف زمن القرب والدُّنُوّ:
حنين يَعصر القلب الباكي بحرقة مَن أوجَعَهُ سَوط ليل الوحدة ها هو يُعَبِّدُ شوارعَ الروح التي ما عاد الشاعر بجسده المذبوح يَقوى على لجم لسانها الصارخ:
«وأنت قريبة
أحن اليك
وأظمأ للعطر
للشمس
في شفتيك» (عبد الرفيه جواهري).
إنه الحنين الذي لم يُهَيِّئ الذات للقفز في بئر الظمإ السحيقة بعد أن غابت شمس الحبيبة وعبست في وجه الشاعر الفاقد سماءُ الانتظار تلك التي تخبئ في حضن غيومها سُرَّةَ الأسرار التي لا يَعرفها إلا من مدَّدَته على صفيحها الساخن مكواةُ ألفَقد..
- عند رصيف زمن البعد والنأي:
غياب جاثم نراه يسرق الضوء من حجرة الماضي المضيئة بإشراق عينَيْ مَن يهواها الشاعر بقلبه يَنفطر، يَذبل الورد الذي كان قد أينع في حدائق قفصه الصدري، وتصفر دالية العنب الحالفة ألا تَبخل بسُكَّر عِنَبٍ يُسْكِر لتغتسل الروح وتتطهر كروح وليد تُحَلِّقُ ابتسامة عينيه لتُقَبِّلَ ثغرَ الحياة وتعانق أنفاس قوس قزح يُلَوِّن مساحة الطبيعة..
«تغيبين..
ويشحب في أعيني الورد
والدالية» (عبد الرفيع جواهري).
فما تَفعَل عصافير الحُبّ سوى أن تبكيَ الفقدَ بعد رحيل بطلة الحُبّ؟!
وكيف لعين القلب ألا تمطر لها سماء انتظار؟!
وكيف للساقية الجاري ماؤها قُبَالَةَ عينَيْ الشاعر ألا تَبكي تعاطفا مع قلبه بجمره الثائر؟!
إنها ثورة العشق تُغلق قوسا على بركان المشاعر التي أعلن الرحيل حدادَه عليها، ثروة في كفّ القلب كانت أغلى من كل الكنوز، فإذا بمسدس الرحيل يسدد رصاصته القاتلة ليَسقط حصان الحُبّ وقد وَعَدَ بأن يَفوز..
«تبكي العصافير
والساقية
وهذا المساء
وحمرته من لظى وجنتيك» (عبد الرفيع جواهري).
عربة المساء تَدفع حصانها الهزيل لتَقول دموعه الجياشة ما لا يَقوله فَم الشاعر، إنه المساء الذي التقط من وجنتي البطلة الراحلة حمرة سمائه الكئيبة من فرط الحزن، فكل شيء غدا يبكي بلا صوت ويتألم تحت وطأة السوط..
لِنَقُلْ إنه سَوط الرحيل الذي عجَّل بموت بطيء بات يكابده الشاعر بمهزلة القلب على منصة الزمن الذي يزف الروح إلى مثواها الأخير في قبر الحياة..
مواسم الضياع ها هي ذي تُخَيِّمُ بكل ثقلها المعنوي لتنعكس انعكاسا مرآويا على المناخ النفسي للشاعر بزلزال يَرجّ أعماقه، فلا شيء قُبالَتَه يدعو إلى أن يوزع ورودَ الأمل على القلب والعين..
«وحين تغيبين
يغرق قلبي في دمعاتي
ويرحل صبحي
تضيع
حياتي» (عبد الرفيع جواهري).
كأنها قيامة صغيرة تقوم وما هَيَّأَ لها الشاعر شيئا مِمَّا يَليق بحالة التأهب، سماء تَبكي ولا غيوم، صنابير عيون القَلب تَسيل ولا دموع، وما أوجعها تلك اللحظات التي تَزجّ في نَفَق الظلام بالشاعر المؤمِن بخطة القَدَر.. !
لحظات موجِعة كهذه تُمْلِي على الشاعر أن يُعَجِّلَ بتقبُّل احتباس الأنفاس تماما كما تحتبس الدموع التي تتفنن الظروف الراهنة في الدفع بها إلى إعلان الحظر، فإذا بالغصّة تكبر في الحلق، وإذا بكتائب الدموع تستشهد في الأحداق..
«فهل يرحل الطيب من ورده؟
وهل يهرب الغصن من ظله؟
أحقا كما ترحل الشمس هذا المساء
ترى ترحلين؟» (عبد الرفيع جواهري).
هكذا يبتلع الشاعر دموعه قبل أن تُطلِق سراحَها العيون (بما فيها عيون القلب والأحداق)، فإذا بحصاد القلب تُشتته عاصفةُ الاشتياق، وإذا بالشاعر الهائم في غير المكان والزمنِ يَقفُ على غير قدمٍ وساق..
ألم دفين يبتلع هو الآخَر مسافةَ الضوء في مدينة الروح، ومتى؟! مع كل عبور للحيّ الشاهد على تاريخ البطلة الراحلة بعيدا عن عيون فَتاها، الدروب الضيقة بمساحات الأمل في التملص من لعبة القَدَر هي الأخرى نجِدُها تَنكأ الجراح كلما داست ترابَها قَدَما الشاعر الماضي في اتجاه بلا عنوان..
«وفي الحي
في كل درب
سأرشف دمعي
سأعصر قلبي» (عبد الرفيع جواهري).
اسفنجة القلب ما عادت تتسع لاعتصار الحزن بعد أن صيَّرَها الوجعُ ذبالة، فإذا بها حالة استنفار تُعدّ العُدَّة لتأكل الأخضر واليابس بعد اشتعال نيران وحِمم صفائح الرحيل..
«وأنت بعيدة
لمن سأغني؟» (عبد الرفيع جواهري).
تَغيب الملهِمة، إنها الملهِمة التي لا يُصَدِّق الشاعر إلى الآن أنها ستغِيب مع أنه يَعي جيدا أنها ستَغيب، فإذا بشعلة الحياة تَغِيب لتنطفئ معها الحياة الثانية، فلا إبداع يا صديقي يَثبت له سقف أو تَنتصب له جدران بعد أن تتوارى الملهِمة البنَّاءَة لِمَجْد الشاعر..
سماء الإلهام ما عادت تَعِدُ بأمطار، وإذا بصَرح الفنّ ينهار.

بقلم د. سعاد درير كاتبة مغربية
copy short url   نسخ
14/03/2020
2426