+ A
A -
في كل مرة أغرم فيها بأسلوب أديب كبير أجدني شغوفة بالتلصص على سيرة حياته، فشتان بين القدرة على التنظير وامتلاك المقدرة على تطبيق عشر معيشير ما نعتنقه من مبادئ ولو كتبناها واشتهرنا على إثرها.

وقد كتب تولستوي يومًا: «أيسر على المرء أن يكتب في الفلسفة مجلدات عدة من أن يضع مبدأ واحدا في حيز التطبيق»

ويبدو أنه كان من القلة الذين طبقوا ما آمنوا به، فدفعوا ثمن معتقداتهم. فقد ولد تولستوي نبيلًا، ثرياً بغير إرادته، لكنه مات فقيرًا.. عن عمد.

فحين أتم تولستوي عامه السبعين، بدأ يسأم من حياة الترف التي يعيشها، فتنازل عن ضيعته للفلاحين والفقراء، وارتدى ثياب المعوزين وعاش في الحقول المحيطة ببلدته يكسب من عمل يده.

وبدأت زوجته صوفيا تشكو من زوجها المجنون، وشرعت تقاتل لحماية ممتلكات الأسرة، بمنعه من محاولاته لإعطاء كل ما يملكه للآخرين، فاشتدت الخلافات بينهما، فكتب لها ذات يوم: «إني لأصارحك بأن حبك العاصف الغيور أرهقني وأضجرني ولفني في شبكة مروعة من البلادة والكسل والخمول والظلام، والحق أني بت أبحث عن نفسي فلا أجدها، وأفتقد عقلي فيفر مني..‏ نعم.. إن عدواك سرت إلي، فأنا اليوم خائف منك وخائف من نفسي.. خائف منك على شخصيتي وعملي، وخائف من نفسي أن أطاوعك فأجهز بيدي على أحلامي ومستقبلي!.. وهذا الخوف المزدوج هو الذي دفعني إلى الرحيل».

وبالفعل رحل تولستوي وكتب لصوفيا قبل رحيه رسالة أخرى: «أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي، وأنه ليحزنني ذلك أشد الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة. لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي. لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني. وقد طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر. يقيني شر اليأس من عالمٍ تشهيّته كثيراً، كما يتشهاه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغت! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام. أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدِتني بها. وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك. مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين. وأنصحك يا حبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي. وألا تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردت أن تعرفي شيئاً عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلا بعد أن أصل إليه، فستجدين بغيتك عند ابنتنا العزيزة ساشا، فهي وحدها التي سأخصها بذكر مكان حياتي الجديدة، وقد وعدتني بألا تذكر لك أو لسواك مكاني».

لقد وصف تولستوي ولع زوجته بإدارة شؤون مزرعته وقصره، لدرجة أنها صارت تقضي يومها كله، في تفقد شؤونها، ومناقشة الفلاحين، ومحاسبة تجار الغلال، والإشراف على مخازن المحصولات، ومراقبة الخدم، حتى صار منظرها وهي تسير متنقّلة بين أرجاء المزرعة والقصر، وسلسلة مفاتيح كل الأبواب معلّقة وسط حزامها، كأنها أشبه بمنظر سجانات العصور الوسطى!

الشاهد أن إيمان تولستوي بنظريات المساواة والعدالة الاجتماعية قد اصطدمت عن تطبيقها مع متطلبات زوجته.

وبرحيل تولستوي استطاع، أن يضع نظرياته المتعاطفة مع الفقراء موضع التطبيق، فهو لم ينتوِ قطع صلته بأسرته، لكنه اراد بتر علاقته مع نمط حياة الترف التي لا تراعي وجود فقراء بجوارك. ولقد كتب يومًا لزوجته:«منذ زمنٍ طويل والتناقض بين حياتي وبين معتقداتي يعذبني».

كاتبة مصرية

في كل مرة اغرم فيها بأسلوب أديب كبير، اجدني شغوفة بالتلصص على سيرة حياته. فشتان بين القدرة على التنظير وامتلاك المقدرة على تطبيق عشر معيشير ما نعتنقه من مبادئ ولو كتبناها واشتهرنا على إثرها.

وقد كتب تولستوي يومًا: «أيسر على المرء أن يكتب في الفلسفة مجلدات عدة من أن يضع مبدأ واحدا في حيز التطبيق»

ويبدو أنه كان من القلة الذين طبقوا ما آمنوا به، فدفعوا ثمن معتقداتهم.

فقد ولد تولستوي نبيلًا، ثرياً بغير إرادته، لكنه مات فقيرًا..عن عمد.

فحين اتم تولستوي عامه السبعين، بدأ يسأم من حياة الترف التي يعيشها، فتنازل عن ضيعته للفلاحين والفقراء، وارتدى ثياب المعوزين وعاش في الحقول المحيطة ببلدته يكسب من عمل يده.

وبدأت زوجته صوفيا تشكو من زوجها المجنون، وشرعت تقاتل لحماية ممتلكات الأسرة، بمنعه من محاولاته لإعطاء كل ما يملكه للآخرين، فاشتدت الخلافات بينهما، فكتب لها ذات يوم:

«اني لأصارحك بأن حبك العاصف الغيور أرهقني وأضجرني ولفني في شبكة مروعة من البلادة والكسل والخمول والظلام، والحق أني بت أبحث عن نفسي فلا أجدها، وأفتقد عقلي فيفر مني..‏ نعم.. إن عدواك سرت إلي، فأنا اليوم خائف منك وخائف من نفسي.. خائف منك على شخصيتي وعملي، وخائف من نفسي أن أطاوعك فأجهز بيدي على أحلامي ومستقبلي!.. وهذا الخوف المزدوج هو الذي دفعني إلى الرحيل».

وبالفعل رحل تولستوي وكتب لصوفيا قبل رحيه رسالة أخرى:

«أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي، وأنه ليحزنني ذلك أشد الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة. لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي. لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني. وقد طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر. يقيني شر اليأس من عالمٍ تشهيّته كثيراً، كما يتشهاه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغت! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام. أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدِتني بها. وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك. مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين. وأنصحك يا حبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي. وألا تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردت أن تعرفي شيئاً عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلا بعد أن أصل إليه، فستجدين بغيتك عند ابنتنا العزيزة ساشا، فهي وحدها التي سأخصها بذكر مكان حياتي الجديدة، وقد وعدتني بألا تذكر لك أو لسواك مكاني».

لقد وصف تولستوي ولع زوجته بإدارة شؤون مزرعته وقصره، لدرجة أنها صارت تقضي يومها كله، في تفقد شؤونها، ومناقشة الفلاحين، ومحاسبة تجار الغلال، والإشراف على مخازن المحصولات، ومراقبة الخدم، حتى صار منظرها وهي تسير متنقّلة بين أرجاء المزرعة والقصر، وسلسلة مفاتيح كل الأبواب معلّقة وسط حزامها، كأنها أشبه بمنظر سجانات العصور الوسطى!

الشاهد، إن إيمان تولستوي بنظريات المساواة والعدالة الاجتماعية قد اصطدمت عن تطبيقها مع متطلبات زوجته.

وبرحيل تولستوي استطاع، أن يضع نظرياته المتعاطفة مع الفقراء موضع التطبيق.

فهو لم ينتوِ قطع صلته بأسرته، لكنه اراد بتر علاقته مع نمط حياة الترف التي لا تراعي وجود فقراء بجوارك.

ولقد كتب يومًا لزوجته:«منذ زمنٍ طويل والتناقض بين حياتي وبين معتقداتي يعذبني».

بقلم :داليا الحديدي
copy short url   نسخ
07/03/2020
2205