+ A
A -
من أجمل ما قرأت نص يفيض بالإنسانية للكاتب «اياد عبد الحي»، يعالج فيه إمكانية أن يعيش المرء حياة مترفة دون ان يقع فريسة لمشاعر الذنب، لو أدى دوره تجاه مجتمعه أو لو ساهم بإيجابية وبشكل نفعي للفئات المسحوقة قدر استطاعته، عوضا عن التحسر على أوضاعهم السيئة دون مشاركة جادة وفعالة في تحسين تلك الأوضاع.
فكثير من الناس يتأذى من رؤية الفقراء والمعوذين حوله، ثم يمضي لحال سبيله أو قد يشارك على وسائل التواصل ببعض الكلمات أو الصور التي تبرز سوء أوضاع الفئات الكادحة.
لكن هذا النص المعنون «قهوة على الحائط» سيطرح عليك فكرة كيف تستمتع بمباهج الحياة دون ان تعود لبيتك شاعرا بالذنب تجاة الفقراء.. فقد كتب «عبد الحي»:
«دخلتُ لمقهى في البندقية بإيطاليا، وطلبت كوباً من القهوة وقطعة كيك، وتنقلت بينهما ما بين رشفة وقضمة متأملاً في الهدوء الذي يخيّم على المكان فلا يقطعه إلا قرع الجرس المعلق على الباب وهو يُعلن عن دخول أحدهم أو خروج إحداهن. ومع وصولي لنصف كوب القهوة، دخل أحدهم للمكان وسحب مقعداً بجوار طاولتي فسارعه الموظف بعد قليل من جلوسه، فقال له الزبون: لو سمحت، أحضر لي كوباً من القهوة، وكوباً آخر على الحائط
اندهشت من طلبه، وتساءلت بيني وبين نفسي عن قصده بـ (كوب قهوة على الحائط)، ولم أجد غير الانتظار والترقب لهذا المشهد.
بعد لحظات جاء الموظف وفي يده كوب قهوة واحد فقط، قدمه لجاري، ثم أخرج ورقة صغيرة وكتب عليها (كوب قهوة) وتحرك نحو الحائط وألصقها عليه وانصرف تاركاً في مخيلتي سيلاً من علامات الاستفهام والتعجب.
بعدها بدقائق معدودة دخل ثلاثة وكرروا ذات المشهد بأن طلبوا ثلاثة أكواب قهوة وزادوا عليها بكوبين على الحائط،، فلم يكن من الموظف إلا أن أحضر لهم الثلاثة أكواب، ومن ثم ألصق ورقتين على ذات الحائط بعد أن كتب على كل واحدة عبارة (كوب قهوة).
أحسست وقتها برغبة عارمة في الصراخ بكل أسئلة الاستفسار.
إلا أني تذكرت أني في قارة (كل في حاله)
ولست في بلد تتساوى فيه عبارتي (السلام عليكم) و(كيف الحال)
في طرحها على الآخر.
وما هي إلا دقائق حتى دخل زبون آخر رث الملبس إلى حدٍ ما،،
فجلس بالجوار.. فأتاه النادل
فقال له الزبون بهدوء: كوب قهوة من على الحائط لو سمحت.
فذهب النادل ومن ثم عاد بكوب قهوة ووضعه على طاولة الزبون، ومن ثم اتجه صوب الحائط وانتزع إحدى الأوراق الملصقة عليه.
وهنا..أعتقد أن الفكرة قد وصلت.
ويالدماثة خلق صاحبها.
إنه التكافل الاجتماعي يا سادة وبطريقة جداً مهذبة ومحترمة ومكتظة بالذوق،، طريقة تضمن لمن ليس لديه ثمن كوب قهوة من الفقراء أن يطلبها دون حرجٍ وبهدوء لا يخدش كبرياءه ولا يبعثر كرامته،، وفي الوقت ذاته تعطي للمقتدر فرصة التصدق بثمن كوب قهوة دون التأثر ببؤس نظرات الفقير والمحتاج».
ليتنا نطبق هذا النوع الانيق من التكافل الاجتماعي في مجتمعاتنا بتعميم فكرة «كوب قهوة على الحائط» الذي طرحها الكاتب القدير في مقاهينا وحوانيتنا، بتشجيع محلاتنا على وضع مثل تلك اليافطات بحيث يتسنى لكل مقتدر تبضع لنفسه، ان يحذو حذو الطريقة هذه الفكرة التي ستمكنه –حال استطاعته- من مساعدة كناس أو عامل نظافة أو موظف في محطة وقود على شراء طلباته أو بعض منها دون إغراقه في مشاعر الحرج.
الملفت في تلك الطريقة المبتكرة في مساعدة الناس انها لا تراعي فقط مشاعر الفقير، بل إنها في الأساس تراعي ظروف المانح.
فالمظاهر خادعة، وكم من رجل تحسبه ثريا والمسؤوليات على كاهله تأتي على الأخضر واليابس في جيبه؛ لذلك فإن ترك امر المساعدة مفتوحا على مصراعيه للجميع دون ضغوط السؤال، أمر يريح الطرف المانح ويتفهم ظروفه المادية المتغيرة ويحفظ ماء وجه المحتاج.
لقد نشأنا على فكرة انك ساعة تشتري جديدا، فلتمنح الفقير فضلة خيرك من قديمك المستعمل.
لكن كوب قهوة على الحائط، يطرح فكرة «اشتريت جديد، فساعد الفقير ايضا بالجديد».. ما يذكرني بمضمون المعنى الذي ورد في محكم التنزيل «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون».
ولأننا نحب الجديد.. لذا، فهي دعوة لمنح الجديد لمن استطاع.

داليا الحديدي
كاتبة مصرية
copy short url   نسخ
08/02/2020
2219