+ A
A -
كتبت مـرة في ذكرى نجيب محفـوط «كلنا خرجـنا من حارة نجيب» إشـارة إلى روايته «أولاد حارتنا» وإشـارة أيضـاً إلى قـول دسـتوفـسـكي في رثاء جـوجـول «كلـنا خـرجـنا من معـطـف جوجول» وكان يشير إلى قصة جوجول البديعة «المعطف». لكنني كتبت مرات أن اثنين عـلى الأقل من الروائيـين العرب لم يتخـرجا في مدرسة نجيب محفوظ، وقد كسـرا القواعد المألوفة في شـهرة الأدباء، فـقـفزا منذ العـمل الأول لكل منهـما إلى الصـف الأول: الطـيـب صـالح في روايتـه «موسـم الهجـرة إلى الشـمـال» وعـبد الرحـمن منيـف في روايتـه «الأشـجار واغـتيـال مرزوق».
في ديسـمبر 1978 أرسـلتني إذاعة دمشـق إلى بغداد، وكان من أسـباب سـعادتي بتلك الزيارة أنني سـألقى اثنين من عـظماء الأدب العربي (وقد لقيتهما): جبرا ابراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيـف الذي مـرت ذكرى وفاتـه السادسة عشرة في 24 يـنايــر دون أن أقـرأ عـنه سطراً واحـداً (ولد في 29/5/1933) فكأنه لم يكن مالئ الدنيا وشاغل الناس.
كانت روايته الأولى (الأشجار واغتيال مرزوق 1973) قد فتنتـنا، أما روايته الثالثة «شـرق المتوسـط» فقد أذهلت الناس قراءً ونقاداً، وما زالت مع جزئها الثاني «الآن هنا» (أو شرق المتوسط مرة أخرى) فريدة بين الروايات العربية. وتابعـنا بعد ذلك رواياته (11 رواية) من أهـمها روايته الملحمية «مدن الملح» بأجزائها الخمسة، وملحمته الأخرى«أرض السواد» ثلاثية الأجزاء. كما تابعنا له مجموعـتين قصصيتين وعشـرة كتب أخرى. والغـريب أن الراحل كان دكتوراً في اقتصاديات النفط (1962).
كان عبد الرحمن منيف تجسيداً حياً للوحدة العربية: أبوه سعودي وأمه عراقية، ودرس وعمل في الأردن والعراق ومصر ولبنـان وسـورية، حتى اسـتقر في بغداد ثم في ســورية التي مات فيها، وقد تجسد هذا في كتبه كلها، فأنت أمام رجل «عربي» النسب والنشـأة والملامح «عربي» الإبداع والاهتمامات، مهموم بهموم أمته وقضاياها، لا بهموم هذا البلد أو ذاك.
من أجمل ما تـرك لنـا الراحلان جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف رواية «عالـم بلا خرائـط» (1982) وهـي بتوقيع الأديبين معاً، في تمازج أدبي رائع، بحيث يصعـب أن تعـرف من كتـب هـذا ومـن كتـب ذاك، وإن كان أحدهـم قد ادعى مـرة أنه واجـه جبـرا باكتشافه أين بصمته وأين بصمة عبد الرحمن، ولم أصدق.
لا تتسع هذه الزاوية للحديث عن أدب عبد الرحمن منيف ورواياته وإبداعه، لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أحزن كثيراً عندما تمر ذكرى رجل كهذا فيتجاهله الإعلام العربي كله، بيـنما ينشـغل هذا الإعلام دائماً بأخبار المتراقصـين والمتراقـصات والزاعـقين والزاعقات، وحسبك The Voice.
بقلم: نزار عابدين
copy short url   نسخ
27/01/2020
1419