+ A
A -
بقلم د. سعاد درير
كاتبة مغربية
على ظهر «عربة اسمها الرغبة»، لا محالة أنك ستجرب فنّ العوم دون أن تكون في حاجة إلى بذلة سباحة ولا في حاجة إلى الماء، فهنالك قد تسمح لك الحال بالإبحار في الخيال، وأين؟! بين ضفتيْ ليل وصهيل..
شيء من الصدمة لا غرابة أن يرفع من جرعات مرارة الحقيقة، لكن الأبشع في كل حقيقة هو ما لا يتوارى خلف غربال الإيمان بها، ومتى؟! في لحظة تنازل الروح عن معطف الكفر بها..
هذا ما قل من اشتهاءات الانقياد لسَوط الـ«لاَ» هذه الرافضة لغيابها رغم غيابها، لنَقُلْ إنه ما قلّ من وعود الانعتاق من قبضة حبال تشتد اشتداد جبال الرغبة الهارب من زفاف بُشراها أديم يعتنق غير دِين الضوء..
مشقة الجنون تنأى بك عن عقارب ساعة الحقيقة التي تؤذن باستحالة استئناف العبور غوصا في اللامحيط، لكنه الجنون المبدع والخلاق ذاك الذي يصطادك بحرارة تيار الأشواق العابر بك قارات النفس..
إنها النفس المتشظية بلا نار ولا دخان، إنها النفس المنفصلة عن قفص أضلع الزمان وهي تبصم حضورها الآيل لانكشاف ببصمة الساحر الفنان..
لنَقُلْ إنه موعد الكاتب ورَجُل المسرح تينيسي ويليامز Tennessee Williams، ولا شك في أن ذاكرتك يا صديقي قد احتفظت باسمه منذ وقوفنا معا عند النجمة «فيفيان لي» تلك التي كان من محاسن الصدف مشاركتها في بطولة الفيلم المأخوذ من قطعة «عربة اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire» للكاتب نفسه، ونالت عن دورها أوسكار أحسن ممثلة..
«عربة اسمها الرغبة» ليست سوى تلك القطعة الجميلة الهاربة من خلف ستائر خشبة المسرح قبل أن تعانق مرآة الكاميرا التي تتربع على عرش بطولة الفن السابع..
وإذا كان عنوان هذه القطعة المسرحية- السينمائية يتفجر بإيحاءاته الواعدة بوقفة، فإن مما يُجيد نصب جسر الترغيب في القطعة هو الرغبة الجامحة في مداعبة العنوان من باب تصفية حسابات النية في قراءته قراءة عاشقة لا يخطئها ذوق الأصابع الزاهدة في ما لا يتمنَّع..
نص قصير كهذا «عربة اسمها الرغبة» من المؤكد أنه سيفتح بابا ونافذة على أكثر من احتمال يغري به التأويل:
- هل هي الرغبة التي تَقود ولا تنقاد؟!
- أم هي الرغبة تلك العربة التي بالكاد تنقاد؟!
- أم هي العربة التي تَقودك إلى حيث اللااشتهاء؟!
- إلى أي مساحة فارغة قد ينتهي بك طريق الرغبة؟!
- أم تراها صحراء الروح الممتلئة باشتهاءات أخرى تنعرج بك إليها الرغبة؟!
- ماذا بين الاشتهاء وحدود زمن الامتلاء؟!
- هل للمرء أن يتحكم في كبح جماح عربة الرغبة التي تَقوده؟!
- أم للمرء أن يسيطر على عربة الرغبة تلك التي يعرف هو معرفة اليقين كيف يتحكم فيها خوف أن يطلق لها العنان لتتحكم هي فيه؟!
إنها الرغبة وكفى، والرغبة وحدها عالَم، عالم هي الرغبة لا تَحدُّه حدود ولا تغطيه سماء، عالَم هي يقف بين قدميْ الأنا والآخَر ليبدد مسافات الجفاء ذاك الذي يعيق قابلية أن يتسلل إليك شيء من الماء المرطِّب لأنفاس الهواء..
من البديهي بالتالي أن يَتِمّ الإقبال على اقتباس الكثير من حرارة الرغبة التي لا تخرج عن كونها عربة تَهيم بك في أرجاء النفس الأمَّارة بالكائن والممكن، إنها النفس التي لا تكشف ملكوتها شمس ولا يحجبها حجاب عن القمر المضيء لها في صمت..
عن «عربة اسمها الرغبة» يعمد تينيسي ويليامز إلى تفصيل عوالم واعدة بتقلبات النفس تلك واشتهاءاتها اللاَّمُرَتَّبة، ولنَقُلْ إن قطعة تينيسي ويليامز المسرحية تلك عولجت سينمائيا وفقَ أكثر من تصور ووجهة نظر تُحْيِي الْمَشاهِد تلك إحياءً يُجاري فكرة الكاتب القدير..
وهنا لا غرابة أن نقف عند الشخصية المحورية التي جادَتْ وأجادَتْ في تعقيد أكثر من مشكلة مبهمة كلُغْز شَهِيّ يُسيل لُعابَ العقل الذكِيّ، إنها بطلة النص «بلانش دوبوا» التي سكنَت الممثلة الجميلة «فيفيان لي» التي جسدت الدور بجدارة قَلَّ نظيرها..
والغريب أن «فيفيان لي» التي كانت متزوجة من زميلها (وطلقها لأسبابها النفسية بعد دوام سنوات العمل كزوجين) تتأثر بقوة وعمق بشخصية «بلانش دوبوا» إلى درجة أنها قد لا تُصدق أن الأيام خبأت لها مسارا لا يختلف عن مسار «بلانش دوبوا»، فإذا بقلم القَدَر يتهيَّأُ ليكتب لهما المصير نفسه مع شيء من الاختلاف على مستوى التفاصيل..
«فيفيان لي» لم تَكن لتخرج من فستان «بلانش دوبوا» المرأة الحاملة لرصيد من الجمال رغم ذبول أوراقه وتَأَهُّب فصل ربيعه للرحيل، لذلك كانت تَنفر من الضوء أَنَّى كان، وكان يكفيها ضوء شمعة خافتة أو مصباح متهالك الأنفاس لتشجع القلب على استعادة زمن الإحساس..
«فيفيان لي» وبطلة تينيسي ويليامز «بلانش دوبوا» رصيدهما من حياة أَشْقَتْهُما وأهانَتْ أُنوثَتَهما ما كان سِوى إحساس، ولِسُوء الحظ لا يُجيد تثمين الإحساس كُلُّ الناس، مما سيُعَبِّئُ العُلبة النفسية للشخصية المختلَقَة والممثلة الحقيقية بدلالات الرفض لواقع جاثم، فإذا بهما معا تَريان أن الحل يكمن في الثورة وإعلان التمرد والعصيان في مدينة الأنوثة الحالفة أن تَرحل..
قوة حاسة تينيسي ويليامز المبدِعة تتجسد في عمق الإبهار باللحظات المفصلية للإبحار في العالم الداخلي للمرأة حدّ أن يُحَلِّلَه ويُعايِشه ويدفعنا إلى تصديقه والإيمان به..
تينيسي ويليامز المقيَّد، في زمن سابق بأغلال الإمكانيات المادية الغائبة تلك التي ما كانت لتُعفيه من مواصلة مسار دراسي يشتهيه لذاته، ها هو يجتهد اجتهاد فنان بإحساسه ليتألق بأصابعه الراسمة لحدود «عربة اسمها الرغبة»..
غير أن لكل قصة نجاح نهاية قد لا تُغري بقراءتها، نهاية كهذه من المؤكد انها ستعتصر قلبا شقيا بعشقه للفن، فإذا بالفنان يُخفق في أن يُضْمِرَ إحباطه النفسي بعيدا عن دنيا الناس..
وهذا صاحبنا تينيسي ويليامز يتفرغ في النهاية لوضع نقطة النهاية لرحلة كفاح قد تَجِدُ نفسك في حاجة إلى تعبيد مسالكها الوعرة مع قِلَّة ما قاله القلم وباح..
إنها البطولة الحقيقية في التموقع على خريطة إدمان الكحول ذاك الذي يصور للفنان عقلُه أنه قد ينتشله من قلب جمرة الوعي الحارقة، فإذا به يكفر بفتوحات دنياه المارقة..
تشتدّ أحوال تسونامي التقلبات النفسية والعصبية، تتجمد الأصابع الباردة من فرط إحساسها بالعجز، وإذا بالقلب العليل ينهي دورته الحياتية موثرا الموتَ اختناقا..
الشهرة والتجاح والتألق مَجْدٌ زائف، لنَقُلْ إنه المجد الذي يفتحه باب الكتابة أمام أكثر من كاتب يحلمون بمطر الحظ، لكنها ضربة زمن النهاية التي أعادته إلى حضن أُمِّه الأرض، بعد أن فشل السفر والترحال في تخفيف وطأة إحساسه بيأسه من الحياة..
السفر والكحول والمخدرات كل هذا ما كان سِوى الحلول الترقيعية التي حاول من خلالها تينيسي ويليامز أن يُرَتِّبَ بها أوراق حياته التي أقسمت أن تنطفئ وبطريقة موجِعة..
«إيليا كازان» واحد من صُنّاع السينما الذي بادر بإخراج «عربة اسمها الرغبة»، ومن ثمة ضرب للكاتب تينيسي ويليامز موعدا مع النجاح المدوّي، غير أنها النفس المضطربة بين مد وجزر، النفسُ بحر، ولكل بحر حفرة عميقة لا تحول دون ردم كل ما يشجع على الهدوء والصفاء والسلام الداخلي..
بين ضفة الكتابة للمسرح وضفة الفن السابع كان زورق تينيسي ويليامز يَجدف، غير أن المرفأ الآمن ما كان ليرتب لصاحبنا التعيس موعدا مع الضوء، فبوصلة إحساسه كانت تخبئ له مكانا عند رصيف اليأس والحزن الروحي والتعب الداخلي ذاك الذي لا سماء تكفيه ولا تنقل ولا سفر ولا كحول ولا مخدرات..
إنه بعض من الانفلات الذي عرقل مسيرة الكاتب الناجحة، وجعَله يَشقى، يشقى أكثر مما يتحمل رجُل معذَّب، رجُل أعطى الشيء الكثير للثقافة الأميركية، غير أن الحياة اللعينة بخلت عليه بالكثير..
لا تَحْزَنْ يا عزيزي تينيسي، فلكل شيء ضريبة، والحياة كذلك، فلا نجاح ولا صعود إلى القمة دون أن تَذُوب ذوبانا مكلِّفا للروح، دون أن تتبدَّدَ كقطعة السُّكَّر في كوبِ حياة ما عاد يُغري برغبة فيه هذا النظرُ إلى نِصفه الممتلئ.
copy short url   نسخ
16/01/2020
2527