+ A
A -
علاقتنا الطويلة بالغرب طغت عليها أوهام وهواجس ووساوس، خلفتها تراكمات ثقيلة من مربع سوء الفهم، وسوء الظن، والتشكيك، والتشويه المتبادل، هي في النهاية رواسب ثقافية لـ (3) رؤى أساسية سادت العالمين العربي والإسلامي:
1 - رؤية الفكر الديني: الأفعل في تكوين الصورة النمطية للغرب في المخيال الإسلامي، صورة الغرب العدواني الصليبي الإباحي الحاقد، والساعي للهيمنة على العالم الإسلامي، ونهب خيراته، ومحو هويته وتغريبه، ونشر الإباحية بين شبابه، بالغزو الفكري، والعولمة الخبيثة.
2 - رؤية الفكر القومي: بنسختيه: الناصرية والبعثية، القائم على أيدلوجية ( الغرب العدواني) الذي قسم البلاد العربية إلى حدودها القطرية (سايكس بيكو) وزرع إسرائيل في قلبها (وعد بلفور) ليمنع وحدتها، ويعوق نهضتها، ويجعل اقتصاياتها تابعة لخدمة مصالحه، وسوقاً لتصريف منتجاته.. وخير من بلور هذه الرؤية، المفكر الفلسطيني الأميركي (إدوارد سعيد) كتابه (الاستشراق) 1978 الممجد من نخب فكرية، وجسده، قبل، محمد محمد حسين، كتابه (حصوننا مهددة من الداخل) 1959، ثم محمود محمد شاكر، في رده على طه حسين (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) 1987.
3 - رؤية الفكر اليساري: فالغرب، مجرد وحش مادي إمبريالي، تحركه ميكافيلية الربح والخسارة، انطلق ليلتهم مقدرات العالمين العربي والإسلامي، وإفقار دوله، وإخضاعه لنفوذه، بهدف إقامة (الحزام الإسلامي الأخضر) لمحاصرة الاتحاد السوفياتي، في الثمانينيّات، عبر دعم (الأصولية الإسلامية) في السعودية ودول الخليج.
عكست هذه المناهج، مفاهيمها على خطابنا الإعلامي، والديني، خاصة، فأصبح خطاباً تعبوياً تحريضياً على الغرب، هدفه إثارة المتلقي، الإنسان العربي والمسلم وشحنه، لا تبصيره ورفع وعيه، يخاطب فيه، غرائزه الأولية، ونزعاته العاطفية الدينية، يتصيد بذاءات الغربيين المتطرفين، ضد الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام، ويضخمها ويعممها، ليقنعنا بعدائية الغرب، واستهدافه لنا، لكوننا مسلمين !
ملاحظتي على هذه الرؤى:
أنها تفتقد الرؤية المتوازنة، تركز على السلبيات، وتتجاهل الإيجابيات، وأن هذه السيئات، جزء من مكونات علاقات مركبة متعددة الأبعاد، فيها ما يحمد، وفيها ما يذم، لكن ما يحمد هو الأعظم، كل مظاهر التحديث مصدرها الغرب، والإنصاف يقتضي موازنة الأمور واستحضار كل مكونات العلاقة، لا التركيز على السلبيات بعين عوراء جائرة، يتجاهل الفكر القومي، وأخوه الإسلامي، أن الحدود الجغرافية تاريخية، قبل مجيء الآخر، وأننا لم نكن أمة موحدة، بل عصبيات قبلية متنازعة، ودويلات طائفية متصارعة، وأن الآخر هو الذي فرض الاستقرار، وحمى العربي والمسلم من تسلط أخويه العربي والمسلم.
المنهج القرآني في العلاقة مع الآخر:
في البداية، يحذرنا القرآن الكريم، من ظلم الآخر، بالتركيز على أخطائه دون حسناته، بدافع كراهيتنا له، فيقول (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) ويرشدنا إلى التحلي بأدب الحوار (وقولوا للناس حسناً) (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) كما يأمرنا بالإيجابية في التعامل (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو رُدُّوهَا) وحتى لو أساء في حقنا، فإن الأسلوب الأفضل، عدم مجاراته في الإساءة، بل كسبه، وتعظيم المصالح المشتركة معه (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
أخيراً: إني من المؤمنين، أنه لا يمكن للعالمين العربي والإسلامي، تجاوز أوضاعه المتخلفة، وعلاقاته المتأزمة، واقتصادياته المتردية، إلا بالتحرر من وسواس التآمر، والتخلي عن أيدلوجية (الغرب العدواني)، والكف عن لومه ولعنه، وتجاوز مواريث العهد الاستعماري وعقده، مثل ما فعلت اليابان والدول المستعمرة الأخرى، وتحمل مسؤولية أوضاعنا، بالمزيد من الانفتاح على حضارة العصر، والإفادة من منجزاتها المعرفية والعلمية والتقنية، ونظمها السياسية والاقتصادية والإدارية، وقيمها في احترام آدمية الإنسان وكرامته وحقوقه، إن هذه العلاقة السوية مع الغرب من أجل مستقبل أولادنا، أولاً.
بقلم: د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
13/01/2020
2106