+ A
A -
كانت ولا تزال وستبقى مطالب الحرية والاستقلالية بمفهوماتها المختلفة هي الشغل الشاغل لشتى الطبقات الاجتماعية والمدارس الفكرية والتوجهات السياسية والتصنيفات الاقتصادية، الاختلاف فقط يكمن في الغاية المطلوبة لكل فريق وموقعه من تلك المطالب والحقوق فالمسمى نفسه محل خلاف واختلاف وصراع ثم الوسائل للوصول إليها وقبل كل هذا وبعده الأطراف والكيانات والظروف المحيطة والمرتبطة بالمجتمع المحلي من خارجه والعوامل المؤثرة والمتحكمة به من داخله،
ثم يأتي العامل الذي لا يتغير في الغالب وهو النظرة الجمعية لمفهوم الحريات والحقوق وما يرتبط بها من واجبات ومسؤوليات ثم العامل المفصلي والذي دائمًا ما كان هو المدخل المستخدم من قِبَل الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية وهو إسفين الحقيقة الكاملة والذي يدعي كل طرف وفصيل امتلاكه ويجعل على الدوام الحريات والحقوق ومطالب وآمال الثورات وشعوبها ينسحق بين تطرفين وطرفين أو أكثر وليس بينهم الغالبية من الذين قامت الثورات لأجلهم ومن أجلهم.
هل علينا عام جديد ولملم العقد المنصرم أوراقه وروزناماته الزمنية، وهو بامتياز عَقْد الثورات وعُقَدِها في المنطقة العربية وكانت السياسة بكل تشعباتها وتعقيداتها هي السمة الغالبة عليه واختلف الأمر عن ذي قبل بدخول الشعوب في المعطيات كطرف مؤثر في التوازنات بتغييرها حينًا، وتحريكها أحيانًا وتبدل أحلافها وأطرافها في الكثير من الأوقات والمناطق كرد فعل لما تقوم به الجموع على الأرض وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وفي ميادين التظاهر والاحتجاج، وعلى ساحات المعارك والحروب وتبرهن ما كان معلومًا بالضرورة أن دائرة السياسة والاقتصاد هي حلقة لا يمكن معرفة بدايتها من نهايتها، وأن الفكر والحريات بأنواعها هي حقوق ونتائج في الوقت نفسه ويستحيل الوصول إليها دون الدخول في تعقيدات السياسة، وأبجديات الاقتصاد والمغفلين بصبغات فكرية وسياسية مختلفة وهدفها جميعًا هو الربح دون الخسارة ولا شيء غير هذا.
نعم كان عَقْد المفاجآت والتغيرات الذي سيمتد تأثير ما جرى فيه لسنوات وسنوات، فقد غابت شخصيات وكيانات وحل غيرها محلها لتقوم بنفس دورها مع تغيير ظاهري في أغلبه وتبدلت أنظمة أو كادت وتغير وجه المنطقة السياسي والديمغرافي والاقتصادي، وأخرج أنبل ما في شعوبها من صفات وأظهر أسوأ ما بداخلها من خصال ووضع تحت منظار الرصد والتحليل والدراسة كل هذا دفعة واحدة، وتحققت على جغرافية المنطقة على اتساعها كل أركان وقواعد ونظريات الاقتصاد السياسي بشتى مدارسها وتمايزت المكونات الاجتماعية والسياسية، وحتى الطبقية لكافة مكونات الشعوب الثائرة منها والصامتة والمحايدة والمغيبة أيضًا، وخرج للعلن ومن خلف أبواب السياسة المغلقة أمام الشعوب كل ما بذلت الجهود وسخرت الطاقات لابقائه بعيدًا عنها حتى تختلط عليها الأمور، ولا تدرك الفرق بين الحقوق والمطالب ولا تعرف الفارق بين ما هي عليه وما يجب أن تتمتع به ولتستمر كل عوامل وأسباب ووسائل التأثير في يد الطبقة الحاكمة المستبدة في هذا النظام الديكتاتوري هنا والعسكري هناك.
بدأ عَقْد جديد ورغم مأساوية وسوداوية ودموية الذي سبقه لكن كل ما حدث ومستمر، هو بمثابة عملية جراحية شديدة التعقيد كان لا بد لها أن تحدث لاستئصال الورم من جذوره وتنظيف الجرح قبل إغلاقه، طريق الحرية والاستقلالية لم يحدث أبدًا وعلى مر التاريخ أن كان مفروشا بالورود أو سهل المنال، فكما للحرية والاستقلالية فوائد ومغانم ومكاسب للغالبية الساحقة من الشعوب المقهورة ففيها من الأضرار والخسائر للمستبدين والطغاة ومن يرتبطون بهم داخليًا والداعمون لهم ولبقائهم خارجيًا، ما يجعل منها معركة طويلة الأمد من جولات متعددة وليس بالضربة القاضية السريعة كما كنا نعتقد في أواخر 2010 وبدايات 2011، وتطول تلك الجولات وتقصر، اعتمادًا على قدرة مختلف الطبقات والفصائل والأحزاب والحركات السياسية والفكرية على معرفة أن لا طرف أو فصيل مهما كان حجمه وتأثيره يمتلك وحده الحقيقة الكاملة والنجاة والنجاح يكمنان في اليقين أنه لا بد من الوصول للقواسم المشتركة بين الغالبية؛ لتمكنها من الوصول لحقوقها وأهدافها وإزاحة الأقلية المستبدة الظالمة من مكانها وإعادة الأوطان لأصحابها، حين يصل كل فريق للقناعة بأن حرية وقناعات الآخرين هي جزء أصيل من حريته هو وحماية لحقوقه ومن صميم واجباته مهما كان مختلفًا معها وغير مقتنع بها حينها فقط ستتمكن الشعوب من التخلص من التركة الثقيلة لعَقْد الثورات والتي تخضبت أيامها بدماء الأبرياء .
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
04/01/2020
1625