+ A
A -
ليس أسهل في السياسة من نحت الكلمات، وأكثر الكلمات التي تضاف إلى القاموس السياسي وراءها مصلحة. ولهذا السبب فإن من يصكون المصطلحات السياسية اليوم قد يأتون في اليوم التالي بمصطلح مضاد متى اقتضت المواءمة والمصلحة ذلك. خذ مثلاً تعبير «الدول الفاشلة»، فقد انتشر في دوائر الفكر والقرار في الغرب لوصف البلدان غير المنجزة في أفريقيا وآسيا والمنطقة العربية لتبرير التدخل في شؤونها بحجة انتشالها من الفشل.
لكن الضرورات بدأت تتغير وتستدعي الترويج لمصطلح مختلف يعكس رغبة كثير من البلدان الغربية في عدم استقبال مزيد من المهاجرين المتوافدين من الدول الفاشلة, ولم يكن مصطلح «الأوطان الآمنة» إلا تعبيراً عن هذه الرغبة.
في ألمانيا مثلاً يتواصل الجدل حول المصطلح، فبعد أن استقبلت على أراضيها في 2015 ما يزيد على مليون لاجئ، اقترحت الحكومة الألمانية إضافة مزيد من البلدان إلى قائمة «الأوطان الآمنة» وهي تلك التي لا يجوز استقبال لاجئين منها ويجب رد كل من يفد منها إليها، وقد وافق مجلس النواب الألماني، «البوندستاج»، في مايو الماضي على مشروع قانون يسمح بضم كل من تونس والجزائر والمغرب إلى قائمة الأوطان الآمنة بعد أن زاد عدد القادمين من تلك البلدان العربية الثلاث، لكن المجلس الاتحادي الألماني المعروف بإسم «البوندسرات»، والذي تعد موافقته لازمة لتنفيذ القانون، أرجأ في السابع عشر من هذا الشهر البت في أمر هذه القائمة إلى الثامن من يوليو القادم لأن الجدل بين الأحزاب السياسية الألمانية لم يحسم بعد حول ما إذا كانت الدول الثلاثة آمنة كما تراها الحكومة أم محفوفة بالمخاطر كما يرى على سبيل المثال حزب الخضر.
ومع أن القائمة الالمانية ومثيلتها الفرنسية تضم حالياً دولاً أصبحت في أوضاع أفضل تبرر إغلاق الباب أمام أي مهاجرين منها مثل صربيا والجبل الأسود وغانا والسنغال، إلا أنها تظل قائمة مطاطة تخضع أسماء الدول التي تضاف إليها أو تخرج منها إلى مواءمات سياسية ألمانية أو فرنسية داخلية لا علاقة لها بمستوى الأمان لا في البلدان التي تخرج من القائمة أو تلك التي تُضاف إليها.
المشكلة ليست في من يدخل القائمة أو من يخرج منها، وإنما في مصطلح «الأوطان الآمنة» نفسه، والمتوقع سماعه كثيراً في الأعوام القليلة القادمة بجانب مصطلحات أخرى تبرر التشدد حيال استقبال مزيد من اللاجئين والمهاجرين، العبرة ليست بالوطن الآمن وإنما بالإنسان الآمن، فقد لا يشعر الإنسان بالأمان في وطن يصنف على أنه آمن.
خذ الولايات المتحدة مثلاً، فهي وطن آمن لكن فيها اليوم أميركيين كثر يفكرون في الذهاب للعيش في كندا، كذلك هولندا والدنمارك والنرويج والسويد، فهي بلدان آمنة لكن عشرات الآلاف من مواطنيها المسلمين المسالمين تدق قلوبهم فيها خوفاً بسبب صعود اليمين المتطرف إلى دوائر الحكم والتأثير.
«الأوطان الآمنة» تعبير هلامي لأن أكثر الأوطان أمناً إلا وفيها جيوب للقلق والخوف والتهديد. الولايات المتحدة من جديد تعتبر بكل المقاييس التي يحلم بها اللاجئون ملاذاً آمناً، لكنها باتت مليئة بجيوب الخوف، بالذات من قبل مسلميها الذين يسمعون مقترحات ترامب العنصرية التي تطالب بتطبيق إجراءات تعسفية تميز بين الناس على أساس الجنس والدين والجنسية، والذين يسمعون أيضاً عن الأموال التي أنفقت بين 2008 و2013 وتصل إلى 205 ملايين دولار على 33 مجموعة عمل لا هدف لها إلا التشجيع على إضطهاد المسلمين.
إن العالم كله يعيش مرحلة قلق كوني واضحة لم يعد ممكناً معها توفير الآمان كاملاً لأحد بعينه، لذا فإن الفارق ليس بين وجود الأمان هنا وغيابه هناك وإنما في درجة اللا أمان بين مكان وآخر.
الأوطان الآمنة ليست إلا فكرة مثالية في عالم بلا أسوار. صحيح أن الإعلان عن قوائمها قد يحد من أعداد اللاجئين والمهاجرين لكنها لن تعفي من ضغوط جديدة ستترتب على منع هؤلاء من النجاة بحياتهم من أوطانهم غير الآمنة، الأمان في هذا الكون إما أن يكون للجميع أو ستكون الفوضى للجميع.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
27/06/2016
1569