+ A
A -
صدِّقْ أن 45 شمعة قد تَنطفئ بيُسر، لكن لا تُصَدِّقْ أنها قد تُطْفِئ ما خَلَّفَتْه وراءها من قَبَس نور يَأبى إلا أن يَعمل على تسخير أَذْرُعِه وسيقانه لِتَدْفَعَكَ دفعا حتى تَقول: ها أنا ذا..
إنها رحلة حياة صغيرة تَختزن تجربةً مُرَّة، وإن كانت التجربة في حقيقتها لا تُضْمِر شيئا من الحلاوة التي تَضرب لك موعدا مع اللذة المشتهاة كتفاحة طازجة يَسيل لها لُعاب عاشق أكول..
لِنَقُلْ إنها الصناعة السينمائية التي زَجَّتْ بفارس دون حصان في قلب المشهَد الذي تَقبض عليه اللقطةُ الحالفة ألاَّ تَهرب بعيدا عن كتائب أضواء الكاميرا الساحرة..
بطلُ التجربة مخرج وممثل وكاتب سيناريوهات ومؤلِّفُ قصص أَهَّلَتْهُ ليكون محظوظا بأن يُوضَعَ هو الآخَر في مُرَبَّع أنطون تشيخوف Anton Tchekhov رائد المدرسة الروسية في مجال تخصُّصِه..
إنه الروسي فاسيلي شوكشين Vassili Choukchine الذي تَنَبَّأَتْ له ولادتُه الباردة في سيبيريا بِقَدَرٍ قاسٍ ما أصعبَ أن يَمْتَثِلَ له طفل خانَتْهُ أصابع الطفولة تلك التي أَقْسَمَتْ أن تَخدش براءةَ ملامح وجهه الطفولي..!
وجه طفولي هو هذا الذي مافتئ أن حَفرَتْ فيه قسوة الريف الذي انحدرَ منه تضاريس خريطة المعاناة التي لا تَغِيب عن فَمٍ من العَبث أن يَطرق صاحبه كل أبواب العمل الكائن والممكن لِيَلْتَمِسَ له بعضا من الرغيف المدهون كما اتفقَ أو لِنَقُلْ مجرد كسرة خبز يابس..
هؤلاء البسطاء الذين تَتَعَقَّبُهُم عيون قَدَرٍ قَلَّ أن يتسامح مع أمثالهم نَراهُم يَكبر حُلمهم ويتمدَّد طموحُهم بِقَدْر ما تَكبر مساحة شَظف العيش الذي لا يَجِدُون له بديلا..
إنهم الضعفاء الذين ينشدون القوة، إنهم الفلاحون الذي لا تَفصلهم عن مُدُن الحُلم مسافات تُذْكَر، وهذا واحد منهم فاسيلي شوكشين الفلاح بن الفلاح الذي أرادت له المثابرة والجِدِّية والرغبة الجامحة في الإيمان بمثُل الالتزام أن يَكون واحدا من أعظم صُناع السينما الذين يُضرَب بجودة عملهم الْمَثَل..
هذا الفلاح البسيط الذي يُشَرِّفُه أن يَكون قد صالَ وجالَ من عمل إلى عمل بحثا عما يُسْكِتُ صراخَ أمعائه التي كانت تَتَضَوَّرُ جوعا لم يَكُنْ ليقفز إلى السينما من النافذة، وإنما أدرك هو في وقت مُبَكِّر أن الباب الذي يَليق بحُلمه الجميل أن يَدخل منه هو الدراسة، ومن ثمة طاب له أن يَلتزم بدروس المعهد السينمائي في موسكو..
ولأنه القروي بن الريف الذي خبرَ الفرق بين شَوكِ القرية ووَردِ المدينة، فإنه لم يَنْسَ أن يُسَخِّرَ مُؤَهِّلاته السينمائية كتابةً وتمثيلا وإخراجا ليَجعل من هذه التيمة موضوعا حاضرا بقوة في الأفلام التي اجتهد بها في معالجة هذه الظاهرة الآيلة فيها الروحُ إلى اغتراب يَمْتَصُّ شيئا فشيئا ضوءَ الإحساس بوجودك..
ولأن ميزان الشخصية ما أكثرَ ألا تَتَّفِقَ فيه كَفَّتَا الخير والشر، فقد رأى صاحبُنا فاسيلي شوكشين أن يَفتح البابَ لِيَتَطَرَّقَ إلى هذه الجدلية (جدلية الخير والشر) التي ما أكثر ألا يَتَغَلَّبَ فيها الخير على الشر، وإن كان فاسيلي شوكشين قد قلبَ الموازين ليَنْتَصِرَ للخير القابع فينا مَهْما استفحلَ الشَّرُّ وتمدَّدَ..
الجميل في مَسار فاسيلي شوكشين هو أن يَقظة إيمانِه بالحُلم العَصِيّ رَتَّبَتْ لاخضرار أوراق شجرة التَّمَنِّي تلك التي تُثْمِرُ فيها اشتهاءاتُك بِقَدْر إخلاصك لها وأنتَ تَتَنَفَّسُ بِعُمق كُلَّما تَعَمَّقْتَ في صُعود السُّلَّم..
سُلَّمُ النجاح يُحَفِّزُ الْمُعَلِّمَ «ميخائيل روم» على أن يربتَ على كَتِف تلميذه فاسيلي شوكشين، ومِن ثمة يَرى الشيخ في مِرآة تحديات الْمُرِيد ما لا يراه غير إحساس الأُمّ بصُمود الابن النموذجي في وجه العواصف التي بَدَلَ أن تستسلم لها أنتَ منحنيا لِمَ لا لِمَ لا تُفَكِّر في أن تَتَعَلَّمَ أن تَتَّخِذَها مصعداً إلى سُحُب الرغبة التي لا تَكفُر بقدراتك الوفية لِمَطَر آخَر..
تلقائية فاسيلي شوكشين وعفويته قُبالَةَ عدسة الكاميرا لا غرابة أنهما تمنحانه جوازَ السفر إلى قلوب المشاهدين الذين لا يترددون في التعبير عن إعجابهم ببطلهم الشاب، إنه البطل الواقعي الذي رَوَّضَتْهُ الحياة القروية على أن يَتَفَنَّنَ في تقمُّص الشخصيات المنصَهِرَة في قالبها الطبيعي..
مع زوجته «ليديا فيدوسيفا شوكشينا» Lydia Fedoseïeva-Choukchina يؤسس فاسيلي شوكشين مفهوم التعاون الإبداعي الخَلاَّق، فضلا عن ميثاق الحياة الزوجية التي يَطمح إليها كُلُّ نِصفَين تحت قُبَّة شروط الاختيار المتكافئ..
وفي ضوء الاتحاد بين فاسيلي وليديا، يَبني شوكشين الآفاق الرحبة لِعَيْنِه الفنية التي لا يَنضب إحساسها بالحاجة إلى إعادة رَسْم عوالم المزارعين والفلاحين الموغلة في الواقعية، ولا غرابة أن يَجِدَ فاسيلي شوكشين ضالَّتَه في الواقعية المشهود لها عند عُظماء الكُتَّاب الروس..
حُبّ الوطن إيمان، وإيمان فاسيلي شوكشين لا حدود له بالوطن الذي يَختزل الهوية والسقفَ والجدران والحياة في كينونتها غير القابلة للتقليد..
اَلْمَزارع ذات النكهة والعبق اللذين لا يغيبان عن الفلاح عَلَّمَتْ صاحبَنا فاسيلي شوكشين أن يُخْلِصَ لمبدأ الإيمان بالحرية، ومِن ثمة يُخلص لكل ما يُشَكِّل دعائم وركائز فلسفته في الحياة تلك التي يَغتذي منها أسلوبُه الإخراجي..
كُلّ ما هو محلِّي وواقعي ويَدخل في صميم الحياة الواقعية بأسلوبها الطبيعي يَرْفَعُه فاسيلي شوكشين إلى عَين الكاميرا لتُعيد تَرْتِيبَه وفقَ فلسفةِ مُخرج وممثل رأى مِن العبث ألا تَتَأَسَّسَ رؤيته الإخراجية على مِرآة مجهرية تُفسِّر وتُحلل وتُناقِش..
لكن صَدِّقْ يا صديقي أنها القراءة التراجيكوميدية تلك التي أَنْصَفَ بها فاسيلي شوكشين العالَمَ الذي ينتمي إليه قبل أن يَثور عليه بدراسة نظم أدواته الفنية تلك التي أعطى بها لعالمه الصغير حَيِّزاً لِيَرتقي به إلى مَصافّ التجربة الواعدة بأُفُق لتحرير العقل من قَبضة عمامة الجهل الْمُقَدَّس على غير مقاسات «أوليفييه روا» Olivier Roy..
في مقدمة أبرز أفلام فاسيلي شوكشين السينمائية نَذْكُرُ شريطه «L''Obier rouge» الذي اختطفَ الأنظارَ، وكانت من نصيبه جائزةُ أفضل فيلم..
ولأنه زمن العبقرية التي تَصَبَّبَتْ في ذات فاسيلي شوكشين، فقد كان مِن الطبيعي ألاَّ يُفَارِقَ بطلُنا أضواءَ الفن السابع إلا بِضَربة مطرقة تقول كلمتَها الأخيرة تماما كالقَدَر..
مُحْزِن أنْ نَقول إن سكتة قلبية وحدها تَقْوَى على أن تَنْتَشِلَ روحَ فاسيلي شوكشين مِن قلب مَيدان تصوير فيلمه الأخير، فإذا بِجِدار الجَسَد يَنهار، وإذا بِقَلَم القَدَر يَبرد بعد أن يَكتبَ نهايةَ العَرض الأخير، إنه العَرض الذي لا يَخرج عن حياة..
إنه فاسيلي شوكشين، أو لِنَقُلْ إنه أسطورة زمن الواقعية الذي انْتَصَرَ لِصَوْت الفلاحين البُسَطاء ورَفَعَهُم على عرش الحياة الثانية التي خَبَّأَتْها لَهُم عينُه، إنها عَين ابن القرية البارّ فاسيلي شوكشين..
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
30/11/2019
2709