+ A
A -
بقلم :
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
أَنْ تَهِيمَ إحساسا بالسوداوية (في لحظة مفصلية) نَفْسُك الباحثة عن الانعتاق حدّ أن تَكفر أنتَ أنتَ بكل ما اجتهدَتْ أصابعك في إنارته من مصابيح الكلمات، فهذا ما لا يتصوره عقل ولا منطق..
لكن، لِنَقُلْ يا صديقي إنها ضَربة مقصّ الحياة العابث بأحلامنا ودفاتر أيامنا هي الأخرى، مقصّ الحياة لا يَترك شَعرا ولا شوارب ولا لحية ولا سِوى ذلك إلا وأَقْسَمَ ألاَّ يعترف به إلا منثورا على أرض البؤس الحالف ألاَّ تَنطفئ له شعلة..
وهذا هارِب آخَر من سجن الأدب وقضبان الحياة الجافة عيونها والمتصحِّر إحساسها الزاهد في النسيم والنَّدى إلى أبعد مَدى، صَدِّقْ يا صديقي أنه المسكين فرانز كافكا Franz Kafka الذي لم يُجَرِّبْ من الحياة إلا الألم والنكران والجحود في زمن الخُسران..
زمن فرانز كافكا لِنُسَمِّه زمنَ المستحيل، زمن شظف العيش، زمن الخسارات بامتياز، من بداية الصدمة في وردة الطفولة الذابلة، مرورا بسَقف الأبوة المثقوب، وصولا إلى الأمل الفارّ بقدميه بعيدا عن اشتهاءات الحياة التي لا تُسعف في غير جَلْد الذات..
من أقصى بلاد التشيك يَنحدر فرانز كافكا الدؤوب على الكتابة بلغة الأُمّ ألمانيا، يَكتب ويَكتب هو المؤمن بتجسيد معارك الحياة في أكثر من رَسْمٍ وتَجَلٍّ، لكن هيهاتَ لشيطان العبث أن يَسمح لذيله بغير النَّيل من تصورات فرانز كافكا لعالم ممسوخ تَرقص فيه مَرَدَةُ الشرّ على حبل أوجاع الضعفاء..!
فرانز كافكا في آخِر أيام حياته يُطفئ الشموع الذائبة ولا يَتحسر على عَربة الرحيل تلك التي ربضت في انتظاره وما كان قد أَنْفَقَ مِن قارورة عُمره أكثر من أربعين قطرة..
أربعون سنة من الإحساس باليُتم، أربعون سنة من الركض على طريق الحياة بعجلة واحدة، أربعون سنة من الانكسار، أربعون سنة من الانتظار لـ «غودو» الذي ما عاد يُوَزِّع تَذاكِرَ الحضور على المتفرجين في مسرح الحياة البارد..
هل كان من الغريب أن يكون كل أدب وكتابات فرانز كافكا مما جَناه القُرّاء بعد رحيل كافكا بزمن؟!
من المؤكد لا، لماذا؟! لأن ما أصاب فرانز كافكا قبل موته بقليل لم يكن مختلفا عن الغَضْبَة الأدبية التي أَعْلَنَها صاحبُنا، فيكفي أنه أصرّ بحدة على أن يتم حرق كتاباته والتخلص منها بأسرها كما لو كانت جريمة يخشى هو الكاتب أن يحتفظ لها الزمنُ بأثر..
لكن هل أنصف رغبةَ كافكا مَن وَجَّه هو إليهم خِطابَه الصارم صرامةَ مواقف أبيه المتسلط؟!
طبعا لا، ولْنُسَمِّها الخيانة العظمى التي تَسَبَّب له فيها صديقُه ماكس برود ذاك الذي وقف كالسّدّ المنيع في وجه رغبة فرانز كافكا العابثة باشتهاءات مَن لم يَغِبْ عنهم أن ينتظروا شيئا مِن حَصاد الأيام تلك التي بخلت على كافكا بشيء من العمر الذي يُطفئ اللهفة على جَني المزيد من سنابل أدبه..
لولا جهود صديق فرانز كافكا (ماكس برود) لَمَا آنَ لِطُلاَّب أدبه أن يَذكروا له سيرة، لذلك يَطيب لنا أن نعتبر خيانة صديقه الرافض رفضا قاطعا للعبث بأدب العبث خيانة مُباحَةً..
ومن العبث مرة أخرى أن يتصرف هيتلر في الكثير من كتابات فرانز كافكا وهو يَأمر بحرقها، مع العلم أنه قد تم الترحيب بما تبقى منها في وقت لاحق تمت دعوة قرائه فيه إلى الاحتفاء بأدبه بعيدا عن السّرّية التي كانت تُحاط بها كتبه..
لعل من أكثر التناقضات التي حكمت على فرانز كافكا بالعزلة والانطوائية اختلاف ميول أُمِّه الوديعة وأبيه القاسي، فشَتَّانَ بين مطرقة صرامة أبيه ذي الطبيعة المستبِدَّة وبين رِقَّة أمه الهادئة المذكرة بصفاء ربوة حالمة بالغيث..!
الظلام القابعة فيه ذات فرانز كافكا هو ما أوحى له باقتناص ساعات الليل لممارسة متعة الكتابة الممزوجة بلَذَّة مُرَّة ونشوة كوابس مُشتَهاة.. إنها الكتابة العبثية التي ما كان لغيره أن يستوعب إلى أيّ مَدى كانت تُتَرْجِم إحساسَه بالواقع..
لم يَكُن الحظ رحيما بالكاتب فرانز كافكا ذاك الفاشل كحبيب وزوج، إذ رغم كثرة الفتيات اللواتي أقدم هو على خطبتهن، فإنه لم يكن موفقا في الاحتفاظ بواحدة تُذْكَر منهن..
ولا غرابة أن بِنية العلاقة غير المكافئة الطرفين بين فرانز كافكا وأبيه، وكذلك تعاسته هو كشريك حياة ونِصف آخَر، تنقلان إلينا شيئا من تلك السوداوية الضاربة بجذورها في التشاؤم..
إنه أقل ما يُبرهِن بالدليل والحجة على تذبذب شخصية فرانز كافكا الرافضة لوجودها رغم وجودها، ولا أدلّ على هذا أيضا من قلقه الوجودي وتحول مواقفه هو الذي ظل لوقت طويل يجهل ما يريد، زيادة على تخبطه في اختيار التوجه الذي يليق به هو الحائر بين الوفاء لحقل الأدب والثورة على دراسة القانون التي امتصَّتْ سنوات من عمره القصير..
حائط عُمر فرانز كافكا القصير ارتطمَتْ به أمواج الحياة الأمَّارة بالنيل منه دون أن يُذنِبَ المسكين، فلا شيء ضربَتْ له الحياة موعدا معه أكثر من صخرة العزلة التي كانت تَسحقه شيئا فشيئا وتُلقي بأشلائه في بئر الاكتئاب التي تزداد اتساعا وعمقا على مر الأيام..
فهل كان داء السل رحيما به؟!
ربما كان فرانز كافكا محظوظا بمرض السل ذاك الذي أنهى صراعه مع الحياة، إنها الحياة التي لم تَبخل عليه بنصيب لا يُحسَد عليه من القلق والثورة الداخلية التي تَعصف باستقرار الروح والوِجدان..
لم يكن السل بريئا من أن يَجني على حنجرة صاحبنا فرانز كافكا، ولْنَتَصَوَّرْ إلى أي درجة كان هو يتلظى عذابا بعد أنْ حال المرضُ بينه وبين اللقمة التي ضَلَّتْ طريقها إلى معدته، فما كان لأحد أن يَتَصَوَّرَ أن كافكا سيموت مَوْتَةَ الجوع..
فكيف بربه يموت جوعا هذا الذي ناضل وحارب بأصابعه من أجل نشر ثقافة التضامن بحماس فيَّاض، كما جاهد بالْمِثْل من أجل ترسيخ أخلاق المجتمع الاشتراكي ذاك الذي تحول إلى وهم من الصعب أن يَنزل إلى أرض الواقع..؟!
إنه جانب من جوانب الحياة بعباءتها الضيقة تلك التي تكشف مُنْعَرَجات الجسد الممسوخ لحياة كل ما فيها ينطق بالموت، حياة تستكثر على من هو أَهْلٌ للحياة أن يَحياها كما يشاء هو ويَليق به..
عن هذا الجسد الممسوخ تَحكي رواية «المسخ»، إنها الْمُنْجَز الذي يُعَدُّ من أكثر كتابات فرانز كافكا انتشارا ووصولا إلى توائم الروح من القُرَّاء الذين يُقاسمون الكاتبَ رحلة القلق الروحي والوجودي..
رواية «المسخ» شكل جديد من أشكال الكتابة التي رَوَّجَ لها فرانز كافكا باقتدار، وهي باختصار تتحدث عن هذا الإنسان التي ينتهي به الأمر إلى صورة حشرة قَذِرَة يتفادى الآخرون وجودَها ولا يُقِرُّون بوجودها رغم وجودها..
لِنَنْظُرْ إلى عالم العبث وهو يتحقق على الأرض، ولْنُثَمِّنْ جِدّية الأدب العبثي الذي سلط عليه الضوءَ فرانز كافكا بطريقة غير معهودة عند زملائه من الكُتَّاب..
لا مسخ هنا سِوى «غريغور سامسا» بطل الرواية الذي لَقَّنَتْهُ الأيام درسا في تشويه الحقائق بقدر تشويه الصور، ولْنَتَصَوَّرْ المسافةَ من الحلم إلى الحقيقة..!
حشرة لا تتقبلها العين كانت أول قطعة طُوب يَرشق بها فرانز كافكا القارئَ على مدار روايته «المسخ»، إنها الحشرة التي تَزدريها الرؤية بالعين والعقل.. فكيف يعقل لهذا الرجُل البسيط الذي كان يجتهد ويتفانى في عمله البسيط ليدرّ شيئا من المال على أسرته أن يتحول إلى حشرة؟!
كيف لأسرته أن تتقبل وجوده في صورته البشِعة هذه؟!
كيف للمجتمع ألا يتواطأ مع الظروف ضدَّه؟!
وكيف للقارئ أن يتحامل على نفسه ويصدق أنه قد يعترف بشيء من هذا؟!
}}}
ما أكثر التفاسير التي سيُجَنَّدُ النُّقَّاد لصفع فرانز كافكا بها حينا ومصافحته بها حينا آخَر، لكن في ظل العبث الذي أصبحت عليه الحياة بأثوابها الرثة والمهلهلة، فإن من غير الحكمة ألاَّ نُصَدِّقَ أن الإنسان (الإنسان بحقّ) ما عاد يَنْظُر إليه الآخَر إلا باعتباره حشرة..
إنهم بَشر، إنهم حشرات تفتقد الإحساس بإنسانيتها كما تَنبض في دواخلها، وكيف لها أن تغير وَجهها في مرآة عيون الآخَرين إن كانوا لا يؤمنون بوجودها إلا كحشرات ينتهي بها المطاف دَوْساً تحت الأقدام؟!..
لا شيء في انتظارك يا إنسان «يا حشرة» غير الموت الرحيم لإنهاء قصة كابوس مرعِب من الصعب أن تتحمله أنتَ نفسك، فكيف من ثمة لا يستحيل أن يتحمله الآخَرون؟!
هي نهاية قَدَر كافكاوي يُسَخِّر أدواته الفنيةَ ومُتَخَيَّلَه للإشارة بأصابع الاتهام إلى الحياة المسؤولة عن رحلة اغتراب وجودي بملامح العبث السوداوي الذي لا يَدَع حدودا فاصلة بين زمن الحُلم والكابوس وزمن اليقظة..
صَدِّقْ يا صديقي ألاَّ شيء يُرديكَ وينتهي بك إلى مَصافّ الحشرات سوى إحساسك بالخواء من وطأة غياب كل ما يمتّ إلى الإنسانية بِصِلة..
وتَستمرّ فوضى حركة طواحين حَرب العبث والاغتراب.. إلى أن نلتقي.
copy short url   نسخ
23/11/2019
3117