+ A
A -
قال تعالى: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ» [سورة الأنعام:59]، والغيب هو ما غيبه الله عن جميع خلقه، واستأثر به. وليس في مخلوقاته من هو على اطلاع به، بمن فيهم الأنبياء والرسل، لذا كان رد النبي أكرم الخلق على معارضيه «وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)» [سورة الأعراف]. ويؤكد ذلك أيضًا الآيات البينات (60-82) من سورة الكهف المتمثلة في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر.
وبدون الإيمان بهذا الركن، يعيش الإنسان في قلق من المجهول والمستقبل، فلا استقرار ولا طمأنينة، ولَجَعل معيار قياس الأمور كل ما هو ماديٌّ ومحسوس، ولأصر على إيجاد بيانٍ لكل شيء، ولألزم نفسه تَفسيرَ ما لا يجب تفسيره، ولتأزّم في إشغال نفسه بحل أمور ما وَجَبَ له أن يلتفت إليها، ولَعَاش حبيس التفكير والتبرير، ولهام على وجهه ولأصبح مجنونًا، فيعقبه إهدارٌ لطاقات العقل وتبديدًا لقدراته. وأبسط أنموذج، قيام بعض الجامعات الغربية بصرف الملايين سنويًّا لإجراء بحوثٍ وتجارب لتفسير ماهية الروح بمنظور علميّ، فأشغلوا أنفسهم بأمر جاء فيه الرد الحق منذ أربعة عشَر قرنًا، في قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» [سورة الإسراء:85]، ولم يكتفوا بذلك، بل أجروا الكثير من الدراسات التي تهتم بتفسير الموت، وإطالة العمر، ولو قرأوا قول الله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا» [سورة آل عمران:145]، لصرفوا تلك الدراسات في مجال آخر أكثر أهمّية.
والكون برمته فوق قدرة العقل البشري الاستيعابية، ولن يستطيع مهما حاول وبحث وقرأ وتعلّم وجرّب واستكشف واخترع أن يحتويه أو أن يفسر كل ما يجرى فيه، أو أن يُحيط بما وراءه. وسيشعر الإنسان في لحظةٍ أنّ كل شيءٍ ضده، حتّى وإن كان فهمه للمواقف ظاهريّا.
ومن أعمق نتائج الإيمان بالغيب أثرًا، التصديق الجازم بأن الله حق، ومحمدا صلى الله عليه وسلم حق، والموت حق، والساعة حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيين حق، والملائكة حق، وأن القدر خيره وشره حق، وبهذا يعيش الإنسان مستوعبًا دوره في الحياة، مُرتاحًا مَهْمَا نغّصته أو أسعدته بتفاصيلها المختلفة.
وحين يفتح الله قلب أحدهم بهذا اليقين، يكون أقدر من غيره على كشف زيف تُجّار الوهم، وحيل الكاذبين، فينأى بنفسه عن خرافات المنجمين وقُراء الكف والفناجين، ودجل المشعوذين والسحرة والكهنة والعرّافين.
كما يدفع ذلك إلى الاستسلام المطلق لله تبارك وتعالى بصورةٍ تقودنا فيه عقولنا التي فكّرت وقدّرت، ثم قلوبنا التي تأملت واستشعرت إلى مرحلة الرضا والهدوء النفسي، والصبر ولو كُنّا مجرورين بين يديّ المصيبة جرًّا، فنردد مؤمنين: «الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)» [سورة الشعراء].
مُدركين أن في ظاهر تلك المصيبة وإن صعُبت مِنحة لا مِحنة، وكل شيءٍ عند الله بقدر، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. والإيمان بالقضاء والقدر مرتبطٌ في كثير من جزئياته بالإيمان بالغيب. وكل أركان الإيمان مرتبطة ببعضها البعض وجميعها أمور غيبية.
وكلما تفكّرنا في الإيمان بالغيب، استشعرنا عظمة الخالق في أسمى معانيها، فالحمد لله على ذلك حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيه، بأن جعله جزءًا لا يتجزأ من الإيمان وثوابت العقيدة.

بقلم : زهرة بنت سعيد القايدي
copy short url   نسخ
25/06/2016
3086