+ A
A -
بقلم: د. سعاد درير
كاتبة مغربية
رَتِّبْ شيئا من الضوء في حُجرات نفسك الأَمَّارة بكشف الغيوب، بينما روحك الحالِمة تَذُوب، تَذوب لتكتب بريشة العشق أحلى لوحة تُعَلِّق على عنوان قصيدة عمرك..
تلك الحجرات، ما أجمل أن تُعفيها من بحر الظلمات، بحر هو تَسبح فيه الأنفاس، ولا أُخْفِيكَ يا صديقي، فهي ليست سِوى الأنفاس اللاهثة بحثا عن جذوةِ إحساس..
إحساسٌ ذاك هو يُعيد الأمل إلى سُفُن الحُلم التوَّاقة إلى السفر صعودا في اتجاه مدارات النقاء تلك التي تَصفو فيها حُجُب النفس كما يَحْلُو لنبتة قلبٍ زكية..
تُراوِدُكَ متاهات الروح، فإذا بِكَ تتخبط في عباءة التيه الفضفاضة تلك التي تَأكل صبرَكَ على القيود وبِالْمِثل تَمتصُّ رغبتَك في الانعتاق..
لا شيء في انتظارك، صَدِّقْ يا صديقي، لا شيء في انتظارك سِوى الإبحار إلى حيث يَطيب لِهَمسة أن تُخاطبَ همسة: صَفاؤكِ يُغْريني بمغامرة الانكشاف والتجَلِّي، فإذا بخيط النور يَصرخ في مكانه جاثما: انفلاتكما يُشقيني هياماً.. أما مِن حُلول؟!
إنها ثروة الجنون تُثقِل كاهل ذاك المسكون بالفنون، ولا غرابة، فحاجة الإنسان تَظل ماسة إلى بصمة فنان، فنان يُزيح ثلوج وطأة الواقع بشكله الملموس، لِيُعِيدَ تَعْبِيدَ الطريق إلى الروح خَشيةَ انطفاء ملامح ذلك الواقع بشكله المحسوس كما تَلْتَقِطُها مَرايا الذات..
صاحبنا معروف الرصافي يَعود بنا إلى مَغارته الفنية لِيُوقِظَ فِينا شيئا من الإحساس بألوان عَلَمِ النَّصر ذاك الذي يَنتصب شاهدا على المعركة، ولا فارس ولا حصان سِوى عزلة الفنان..
رُصافياتُه (معروف الرصافي) تَفي بموعدها مع تاريخ الإحساس الجميل ذاك الذي لا يَصدر إلا عن فنان نبيل، فنان خَبَرَ القسوة لِيُجيدَ تجسيدَ الحنان، فنان عاصَرَ البؤس والألم ليَرسم بالقلم خريطة الحرمان، فنان صرخَ صرخته الشعرية المزمجرة لتَشُقَّ السماء الصمَّاء لعل بارقةَ أملٍ تَعصف لِتُعْلِنَ ميلادَ الإنسان..
لا شيء يَعِد الروح بصحوة أكثر مِن طوفان يستدرجه إليها قوس قزح أحاسيس هائمة في بِيدِ الوجدان، فإذا بشمس الروح الثانية تُشرِق، تُشرِق لتعلن ثورةَ الكلمة والآلة الخرساء والأوتار والنَّغَم والحركة والألوان..
«إن رُمتَ عيشًا ناعمًا ورقيقا فاسلك إليه من الفنون طريقا
واجعل حياتك غضَّةً بالشعر والتمثيل والتصوير والموسيقى
تلك الفنون المشتهاة هي التي غصن الحياة بها يكون وريقا
وهي التي تجلو النفوس فتمتلي منها الوجوهُ تلألؤًا وبريقا
تمضي الحياة طريَّةً في ظلها والعيش أخضرَ والزمان أنيقا
إن الذي جعل الحياة رواعدًا جعل الفنون من الحياة بروقا
وأدرَّها غيثَ اللذاذةِ منبتًا زهرَ المسرة سوسنًا وشقيقا
وأقام منها للنُّفوسِ حوافزًا تدع الأسيرَ من القلوب طليقا
فتحلُّ عقدة مَنْ تراهُ معقدًا وتفُك رِبْقة مَنْ تراه ربيقا
تلك الفنون، فطِرْ إلى سعةٍ بها إن كنت تشكو في الحياة الضيقا
ما فاز قطُّ بوصلها من عاشق إلا وكان لعارفيه عشيقا
فهي ابتسامات الدُّنا وبغيرها ما كان وجه الحادثات طليقا
رطِّب حياتك بالغناء إذا عرا همٌّ يجفِّف في الحلوق الريقا
إن الغناء لمحدثٌ لك نشوةً في النفس تطفئ في حشاك حريقا
واتركْ مجادلةَ الذين توهَّموا هَزَج الغناء خلاعة وفسوقا
أرقى الشعوب تمدنًا وحضارة مَنْ كان منهم في الفنون عريقا
فالفن مقياس الحضارة عند مَنْ حازوا الرقيَّ، وناطحوا العيُّوقا
الشعر فنٌّ لا تزال ضروبه تتلو الشعور بألسن الموسيقى
ويجيدُ تقطير العواطف للورى فتخاله لقلوبهم أنبيقا
ومسارح التمثيل أصغر فضلها جعل الكليل من الشعور ذليقا
وإذا رأى فيها الوقائع غافل من نوم غفلته يكون مفيقا
تنمي الحميدَ من الخصال وتنتقي ما كان منها بالفخار خليقا
وتجيء من عبر الزمان بمشهد يُلقي خشوعًا في النفوس عميقا
ويكون منظره الرهيب ممهدًا لمشاهديه إلى الصلاح طريقا
أما المصوِّر فهو فنَّانٌ يرى ما كان من صور الحياة دقيقا
تأتيك ريشتُه بشعرٍ صامت ولقد يفوق الشاعرَ المِنطيقا
وبدائع التَّصوير من حسناتها أن يستفيد بها الشعور سموقا
فهي الجديرة أن تكون ثمينةً وتكون أنفق من سواها سوقا
إن الحياة على الكُدورةِ لم تجد مثل الفنون لنفسها راووقا» (معروف الرصافي).
هكذا يُقْحِمُكَ يا صديقي هذا الـ«معروف الرصافي» في حُمَّى الفنون لتَتَمَدَّدَ إحساسا أنتَ كما لو كُنتَ مُكَعَّبَ زبدة هاجَ وماجَ شوقا إلى انصهار، فمع كل لَفْحِ نار تُكتَبُ له حياة ثانية عنوانُها الإصرار..
في ظل هذه الفنون، وبِشتى لُغاتِها، لا يسعكَ يا صديقي إلا أن تتلذذ بتجربة العيش ذاك الذي بفضلها يتدفَّق هو رِقَّةً ونُعومة وحلاوة وجَمالا وفَرَحاً شهيًّا ككَعْكَة العيد..
مَشاعِر جَيَّاشة يُفْرِغُها معروف الرصافي في قالب الفنون بعد أن يَعْجنها بِمِلْحِ التجربة الْمُرَّة تلك التي تَغْدُو بالفن أحلى..
هذه أَرْقَى وأَرَقّ رسالة إنسانية يَليق بالشاعر أن يُمَرِّرَها رغبةً في تَنْقِية المناخ النفسي للإنسان، إنه الإنسان الذي يُخَطِّطُ الشاعر لصالحه مُوصيا بحَملة تطهير من الداخل..
ولا غرابة أن يَكون في مقدمة مَرامي هذا الحِسّ التطهيري الدعوة إلى رَدم حفرة القطيعة التي يَفرضها الواقع، ومِن ثمة مصالحة الإنسان مع ذاته..
إنها بداية استرجاع مستوى التوازن الذي قَلَّمَا يتحقق لإنسان لم تَطحنه رَحى الوقت، ويَكفي هنا، يَكفي أن يَكون الفنُّ مُعادِلاً للمُرَطِّب الذي يُزِيل مُخَلَّفات زَمن الجفاف..
جفافُ الروح يُوَلِّدُ في النفس إحساسا بالرفض، وما كانت الفنون إلا واجهة لتَجْمِيل الحياة، بل لِنَقُلْ إن الفنّ يُنتَظَر منه أن يَسمو إلى مرتبة تَوْأَم الروح ذاك الذي لا يمكن أن تُخْطِئَه أنتَ في مِرْآة المكاشَفة..
مِن هنا إلى قَبْر معروف الرصافي تحية وَردية (في غير زمن الملائكة)، وعنقود سَلام..
copy short url   نسخ
19/10/2019
3227