+ A
A -
بقلم: د. سعاد درير
كاتبة مغربية
تَيَمُّناً بِخُطى واثقة رَتَّبَتْ لها العملاقة الرقيقة إيديث بياف، قِدِّيسة الزمن الجميل، وَجَدْنا عملاقا آخَر يفتح ذراعيه للحظ الذي ضرب له قَدَرُه مَوْعِداً معه..
صوت جميل حالِم بالحب والسلام تَقوده قدماه إلى مرافئ النجاح والنجاة الروحية تلك التي يَطرب لها المزاجُ وتُغَرِّد فيها عصافير العاطفة وتَسكر فيها الروح نَشْوَى ثَمِلَة..
إنه الفرنسي شارل أزنافور (Charles Aznavour)، إنه أكبر الْمُعَمِّرين في أرض الفن، يكفي أنه ظلَّ مولعا بوقفته الجميلة على مسرح الغناء إلى أن اختطفته أمواج الموت الساحبة قدميه إلى العالَم الآخَر دون أن تَسحب بساط الشهرة والانتشار الذي كان يَستدرج إليه عُشَّاق السَّمَر ألفَنِّي وطُلاَّب ليالي الطَّرب..
يَشاء الحظّ أن يَجمع الكبيرين شارل أزنافور وعرّابتُه الفنية إيديث بياف التي ساقَها إليه قَدَرُه لتحلق معه إلى ما وراء مُدُن الحُلم الفرنسي..
تَسمح إيديث بياف لشارل أزنافور بأن يَطير معها على جناح الرغبة في انتشاله مِن بحيرة العزلة تلك التي تتمدد فيها الاشتهاءات، فلا يَعرف المرء في أي حفرة يَصبّ كأسَ الحيرة هاربا مِن جرعاتها المريرة..
معا يُبحران لِتَجود على شارل أزنافور أضواء الحُبّ التي كانت مسلَّطة على إيديث بياف، فإذا به يَحفر اسمه بما تَيَسَّرَ لصاحبه مِن قِسط من القبول عند مَن غَدَوْا مُريديه بعد أن اتَّخَذُوه شيخَ الطريقة..
شارل أزنافور، مما لا يَعرفه الكُلّ، هو أنه تَسَلَّلَ إلى منصة الطرب بعد أن ترك جانبا عشقه للركح ولأضواء الكاميرا، يَكفي أنه يُذْكَر كلما تحدثنا عن مخرجين عظماء جادوا وأجادوا لصعود سُلَّم المجد الفني تمثيلا..
ولا غرابة أن يَحصد شارل أزنافور مِن النجاح ما لم يَحصده غيره مِمَّن وَفَّقُوا بين عشقهم الجميل للتمثيل وهَوَسهم الأصيل بالميكروفون وأصدائه الذَّبَّاحة حُبّاً..
هذا الحُبّ الذي قَوَّى قلبَ شارل أزنافور على تَسَلُّق نخلة الموسيقى جعلَه ينال مِن الشهرة ما لم يَنَلْه فارس، يَكفي، يَكفي أنه بَلَغَ العالمية، ومِن غير العدل ولا الحكمة أن نُنْكِرَ عليه بصمته الخاصة على الأُذُن الموسيقية الأميركية تلك التي كان لها مع صاحبنا شأن لا يَقِلّ شأنا عن حال الأُذُن الموسيقية الفرنسية معه..
رحلات عبِقَة بنسمات صوته تَقفز بشارل أزنافور مِن مسرح إلى مسرح هو الذي لم يَتَمَرَّدْ يوما على عناق الخشبة له، وما فتئت تَطيب له أنفاسها حتى بعد أن تجاوز مِن العمر التسعين سنة..
عربة العمر تَنتفض خلف حصانها الراكض ذاك الذي هَيَّأَ له شارل أزنافور ما يَعِدُ بأن يَكون دائما على أهبة واستعداد استجابة لنداء جمهوره..
مما يُحْمَد لشارل أزنافور أنه لم يَكن مغنيا فقط، وإنما كان أيضا شاعرا غنائيا، بدليل أنه قد أَلَّفَ من كلمات الأغاني العشرات والمئات..
طبعا لم يكن شارل أزنافور يَكتب أغانيه لنفسه فقط، وإنما كان قد دَأَبَ على أن يؤلف لغيره من الفنانين الذين نَتَّفِق على أنهم كانت تَستهويهم لعبة الغناء وتجتذبهم إليها حديقةُ الموسيقى..
هذا الوفاء لفن الغناء بهذه القوة وبذاك الثراء إنما يُبرر لنا يا صديقي لماذا هجر شارل أزنافور مَقاعِدَ الدراسة في ريعان الصبا والفتوة بعد أن استدرجته رياحُ الفن بعيدا عن حقل التحصيل..
ولكل ذلك لا نستغرب، لا نَستغرب عندما نَجِد أن شارل أزنافور كان قد اعتلى مسرح الفن قبل أن يستكمل سنواته العشر هو المولَع بركوب الصعب إخلاصا لشيء يَنبض له قلبُه بحرارة..
ولأن الإخلاص في عُرف شارل أزنافور دِين وعقيدة قبل أن يَكون لُغَة، فإنه لطالما أخلص لأرمينيا.. لكن لماذا أرمينيا دون سِواها؟!
لِنَقُل إن أصله هو يَمتد إلى هنالك، كيف لا وهو الذي وفد والداه من أرمينيا بحثا عن تحسين لوضع الهشاشة الاجتماعية التي خَلَّفَتْها النزاعات العرقية في أرمينيا..
وإذا كان أبواه قد فَكَّرَا معا في النجاة بعيدا تحت سماء أميركا، فإن القَدَرَ كان رحيما بابنهما شارل أزنافور الذي حقق لنفسه الرغبة نفسها بعد أن عَبَرَتْ موسيقاه القارات وجنى تصفيق جمهور عريض في أميركا التي شَهِدَتْ هي الأخرى زَحْفاً أزنافوريا تَوَّج مسيرتَه الفنية داخل وخارج فرنسا..
أما الحبيبة أرمينيا، فقد جَنَّدَ شارل أزنافور نفسه ليدافع عنها بصوته ذاك الذي لم يَجِدْ مِن العبث أن يُخْلِصَ لموطن والديه، ومَن ذا الذي يَدَّعي وُجودَ قلبٍ بين ضلوعِه يَخفق خفقانا إن لم تَكن خفقته الأولى والأخيرة لمسقط رأسه؟!
غير أن لكل نجاح ضريبة، وُلْنَقُلْ إن ضريبة الشهرة والحظ في حالة شارل أزنافور سرقَتْ منه نصيبه مِن السعادة الزوجية على مستوى الحياة الشخصية، يَكفي أنه جدَّدَ عقد الزواج على مدى ثلاث زيجات.. ثلاث زيجات أَكَّدَتْ بما لا يَقبل الشك فيها أن شارل أزنافور جَرَّبَ مِرارا أن يَلعق شيئا مِن عسل الحُبّ الذي يَعِدُ به نَحْلُ الحياة الزوجية.. صحيح أن شارل أزنافور (الأسطورة التسعينية) لم يَجد صعوبة في أن يُنجِب ستة أبناء، لكنه ظل يُطارد فراشةَ السعادة الزوجية الهاربة تلك التي كان يَستسلم لغوايتها بِقَدْرِ ما كانت تُمنِّيه بأحلام العصافير الآيِلة للتلاشي..
قد يَشفع لشارل أزنافور أن مَسارَه الفني كان حافلا بأضواء النجومية تلك التي سَهَّلَ أمرَها ذكاؤه هو الذي تَاق إلى إرضاء الأذواق، فكان يَكتب بمختلف اللغات التي كانت تَمُدُّ الجسورَ إلى الآخَر الذي كان يَنتظره جاثما تحت مظلة الاشتياق..
ولأن لكل أسطورة نهاية لا تُرضي كالمعتاد مَن لا يؤمِن بها، فقد شاءَت الأَقْدار أن تَضَعَ لِحُروف الْمَجْدِ نقطةَ نهايةٍ في فاتح أكتوبر من العام 2018، وكان شارل أزنافور قد استوفى 94 سنة..
بإحساسٍ عالٍ كان عَطاؤُه..
وبِسَخاء تَمَدَّدَتْ أنفاسُه..
ولسانُ زمنِه الجميل كانَ: «لِنُغَنِّ.. لِنُعَبِّرْ»..
copy short url   نسخ
12/10/2019
2558