+ A
A -
بقلم:
د . سعاد درير
كاتبة مغربية
صوتُه الشَّجِيّ يَبعث الدفءَ في النفوس، ونبراته الهاربة مِن حنجرته الذهبية تُصيب الروحَ الذَّوَّاقة في مَقْتَل لِتُحْيي شغفَها بلذة النص السمعي..
وَقْفَتُه لا تَخرج عن وقفة طائر عملاق يَتَرَنَّم بموسيقاه النابعة مِن أعماق النفس المتمرِّدة على المتلَقّي بتشجيعها له على الوقوع في حفرة «مِنْ أَيْنَ تُؤْكَل الأُذُن»..
فنان بسيط هو، هو الكبير عبد الهادي بلخياط الفنان الإنسان الموفَّق إلى أَبْعَد مَدى في كل اختياراته الطَّرَبِيّة والفنية..
إنه هو، هو الذي يَعبر إحساسَكَ بما يَشتهيه لك مِن مَوائِد موسيقية لا يَسعها إلا أن تُخاطِبَ الوجدان وتَقول للروح: أَطْرِبِيني وغَنِّي..
لحضوره الباذِخ ذاك الذي كان على خشبة مسرح الموسيقى تحت سماء الفن جَلالٌ يَنحني له المتلقي التَّوَّاق إعجابا، ولِرِقَّة إحساسه بما يُؤَدّيه قَداسة قَلَّما تُقيم في حضن الحبال الصوتية لأهل الفن والطرب في أيامنا هذه..
وأنتَ في حضرته، وأنتَ في حضرته تَتَغَزَّل بك الكلمات، وتُداعِب وجنتيك النبرات تلك التي تُصَيِّرُكَ شمعةً تُضيء لنفسها لا للآخَرين..
مِن آخِر ما اجتهد العُود الطَّرُوب (المغربي عبد الهادي بلخياط) في الوقوف بين يديه كصقر تَهابُه الطيور الغِرِّيدة مقامٌ لا يَدريه إلا أهل العشق ورجال الله العارفون بالطريقة الصوفية:
«اِشْتَدِّي أزمةُ تَنفرجي
قد آذن ليلك بالبَلَج
وظلامُ الليل له سُرجٌ
حتى يَغشاه أبو السُرج
وسحاب الخير له مطر
فإذا جاء الإبَّان تَجِي
وفوائد مولانا جُمَلٌ
لشروج الأنفُس والْمُهَجِ
ولها أرج مُحْيٍ أبداً
فاقصد مَحيا ذاك الأرَجِ
فَلَرُبَّتَما فاضَ الْمَحْيَا
بِبُحور الموج مِن اللُّجَجِ
والخَلقُ جميعا في يدهِ
فَذَوُو سَعَةٍ وذَوُو حَرَج
ونزولهمُ وطُلوعُهُمُ
فإلى درَكٍ وعلى درجِ
ومَعايشهم وعواقبهم
ليست في المشي على عِوَجِ
حِكَمٌ نُسِجَتْ بيدٍ حَكَمَتْ
ثم انْتَسَجَتْ بالمنتسِج
فإذا اقتصدت ثم انعرجت
فبمقتصِد وبمنعرج
شَهِدت بعجائبها حُجَجٌ
قامت بالأمر على الحُجَجِ
ورضا بقضاء الله حِجَا
فعلى مركوزته فَعُجِ
وإذا انفتحت أبواب هُدَىً
فاعجل بخزائنها ولِجِ
وإذا حاولت نهايتها
فاحذر إذ ذاك من العرج
لتكون من السباق إذا
ما جئت إلى تلك ألفُرجِ
فهناك العيش وبهجته
فبمبتهج وبمنتهج
فَهُجِ الأعمال إذا ركدت
فإذا ما هُجت إذن تَهُجِ
ومعاصي الله سماجتها
تزدان لذي الخلق السمج
ولطاعته وصباحتها
أنوار صباح منبلج
من يخطب حور الخلد بها
يظفر بالحور وبالفنج
فكن المرضي لها بِتُقَى
ترضاه غداً وتكون نَجِي
واتلُ القرآن بقلبٍ ذي
حزن وبصوت فيه شَجِي
وصلاة الليل مسافتها
فاذهبْ فيها بالفهم وجِي
وتأملها ومعانيها
تأتِ الفردوس وتفترج
واشرب تَسنيمَ مُفَجِّرِهَا
لا ممتزجاً وبِمُمْتَزِجِ
مُدح العقل الآتيه هدى
وهوى متون عنه هجي
وكتاب الله رياضته
لعقول الخلق بمندرج
وخيار الخلق هداتهم
وسواهم من همج الهمج
فإذا كنت المقدام فلا
تجزع في الحرب من الرهج
وإذا أبصرت منار هدى
فاظهر فرداً فوق الثَبَجِ
وإذا اشتاقَتْ نفس وَجَدَتْ
ألماً بالشوق الْمُعْتَلِجِ
وثنايا الحسنى ضاحكة
وتمام الضحك على الفلج
وغِياب الأسرار اجتمعت
بأمانيها تحت السُرج
والرفق يدوم لصاحبه
والخرق يصير إلى الهرج
صلوات الله على المهدي
الهادي الناس إلى النهج
وأبي بكر في سيرته
ولسان مقالته اللهِجِ
وأبي حفص وكرامته
في قصةِ سارية الخُلَجِ
وأبي عمر ذي النورين
المستهدي المستحي البَهِجِ
وأبي حسنٍ في العلم إذا
وافى بسحائبه الخُلَجِ
وعلى السبطين وأمهما
وجميع الآل بمندرج
وعلى الحسنين وأمهما
وجميع الآل بهم فلج
وعلى الأصحاب بجملتهم
بذَلوا الأموالَ مع المُهَج
وعلى أتباعِهُمُ العلما
بعوارف دينهم البَهِجِ
يا ربِّ بهم وبآلهم
عَجِّلْ بالنصر وبالفَرَجِ
واخْتِمْ عملي بخواتمهم
لأكون غداً في الحَشْرِ نَجِي»
(قصيدة المنفرجة).
بعد سنوات طويلة مِن العطاء والسخاء، وَجَدْنا الكبير عبد الهادي بلخياط يَنْأَى بحبه للعُود وآهات الكمان بعيدا إلى حيث يَطيب له المكوث بين يدي الله..
يَنْأَى هو الهَرَم الخالد بِأَثَرِه الطيب كنخلةٍ باسقة تُوثِرُ الإنصات إلى ما يقوله جَرِيد لِجَرِيد وبَلَح لِبَلَح.. هكذا هُم الكبار الذين لا يسقطون من حقيبة الزمن..
أمَّا فاكهة الشتاء، فأنْ يَميل الكبير عبد الهادي بلخياط إلى أن يُعاقر كأسا أخرى، كأسا تَلَذُّ للشفاه الملتهِبة تحت سَوط العطش، لكن قَلَّما لا يُخطئها العبد الفارِغ مِن سواه هو الله..
كأس الحُبّ الإلاهي هي، ولا شيء يَلِيق بالروح التَّوَّاقة إلى رِضى مولاها أن تَرْتَشِفَه بِحُبّ، بِحُبٍّ وبفائض الشوق، سِوى حُبّ الله..
بين يَدَيْ الله يَستثمر الكبير عبد الهادي بلخياط مُؤَهِّلات صَوتِه الجهور العابِر لِقَارَّات الْمَحَبَّة في التَّرَنُّم بِحُبّ الله سُبحانه لا شريك له..
بِصَوْتِه الأَسْيان ها هو عبد الهادي بلخياط يَحفر الروحَ خَلِيّةً خَلِيّةً، لِيَسْتَدْرِجَنا إلى باب الله ذاك الضَّارِب لنا موعدا ما لنا فيه إلا أنْ نَلقاه..
بل حتى في خلوة الأذان الذي يَضرب هو له موعدا تَطْرَب له شَفَتاه هو العظيم بدعوته لنا إلى عِشق الله، وَجَدْنَا لسانَه يَحِنّ فيه حنينَ الناي الذي يَأْسِرُنا خَلْفَ خُيوط الفؤاد..
وهو (عبد الهادي بلخياط) يَنشر مناديل إحساسه على حبل الأذان ستَجِدُه يقينا يمدّكَ بأَذْرُع وسيقان، لماذا؟ لِتَدْفَعَكَ دَفْعاً إلى الخشوع، كيف لا وهو العبد الوجِلُ رهين المناجاة والتَّبَرُّك بِنُور الله والتَّيَمُّن بالدعاء وخالص الذِّكر في شُرْفَة لَيل النفوس التَّوَّابة قُبَالَةَ بابِ الله..
دَرْسٌ آخَر هذا الذي يُعَلِّمُكَ فيه كبيرُهم أنَّ صوتَكَ ثروة روحية، ثروة هي أينما وَجَّهْتَها سَتَرَى مِن المؤكَّد أنها تَعُود عليكَ بِبَشائِر الثَّراء، ولا أَرْوَع ولا أَرْقَى ولا أَغْلَى ولا أَعْلَى مِن الثَّراء الروحي..
لِتُصَدِّقْ يا صديقي أنه الثراء الروحي ذاك الذي يُوَجِّهُكَ كأصابِع مايسترو لِتَجُودَ وتُجِيدَ..
ولا غرابة أنَّ هذا النوع مِن الثراء هو وحده سبيلُكَ إلى الامتلاء الروحي ذاك الذي يُبِيدُ مُخَلَّفات هزّات ألفَراغ.. لِيَكُنْ بابُ الله الْمَدْخَلَ الذي مِنه تَلِجُ يا صَديقي مُدُنَ الطمأنينة النفسية، واعْلَمْ أنَّ امتلاءَ الروح بِحُبّ الله يَكْفِي لِيُبَدِّدَ الإِحْسَاس بِكُلّ فَراغ عاطِفي..
copy short url   نسخ
05/10/2019
3057