+ A
A -
بقلم:
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
يُلهِبنا سَوطُ الحُبّ، ويَعصر مضخّات قلوبنا لتَدمع كما لم تَدمع عين.. فما بالنا وهذا الذي نَهواه هو الأَب!
الأب!الأب، هذا الحامل على ظهره جُثَّة الهمّ الثقيلة، تلك الجثة التي يَحلو لها أن تَظلّ لصيقة به على امتداد ليالي المتعَبين الطويلة!
الأب!الأب، هذا الذي يُساورك الشكُّ في غيابه: أحقا غابَ؟! أحقا غادَر؟! أحقا هاجرَ؟! أحقا رحلَ؟! وإلى أين ستكون هجرته الطويلة والسرمدية في رأيك إن لم تَكن إلى آخِرةٍ أَبْعَد مِن أن تترقب أنتَ رحلته إليها ممتثلا لسلطة قَدَرِه؟!
«أبي لم يزل بيننا، والحديث
حديث الكؤوس على المشرب
يسامرنا، فالدوالي الحبالى
تَوالد من ثغره الطيب
أبي خبرا كان من جنة
»ومعنى مِن الأرحب الأرحب
وعينا أبي ملجأ للنجوم
فهل يذكر الشرق عينَيْ أبي؟
بذاكرة الصيف من والدي
كروم وذاكرة الكوكب«(نزار قباني).
بين الحضور والغياب مسافةُ عذاب، عذاب بعمق كِتاب الوجع ذاك الذي لا يخفي عنوانُه مَحاورَ أبوابه وفصوله وأدَقّ تفاصيل سطوره..
هُبوب مواسم الوجع ما بعده هبوب، وليل الفقدان لا يَنجلي بصبح، وضربة الغياب تَصنع بك ما تَصنعه هزة زلزال على غير مقاسات سُلَّم ريشتر الكائنة والممكنة..
إنها ضربة أقسى مِن كل ضربة شمس أو ضربة برد قد تَقودك إلى حتفك مع شيء مِن الـتأهب والاستعداد، أما في حالة الشاعر، فلا مواعيد يَضربها الموت للعِباد..
وطأة الرحيل لا تُعادلها إلا وطأة سقف يَسقط سقوطا مدويا في النفس والوجدان.. وحرقة الفراق لا تُضاهيها إلا حرقة قلب مذبوح، مذبوح حتى العظم على رأي هذا الذي يفصل المعاني الكبير نزار قباني..
لهذا تمضي سفن الانتظار في لُجَّةِ قَدَرٍ لا يتنازَل، لا يَتنازَل يوما عن حُكمٍ يُمليه، فما بالنا والحال هذه تُملي فيها مطرقةُ الموت الأمَّارة بما يَفرضه قَدَرٌ قَاضٍ ليس بأيّ قضاء يُذْكَر!
«بقاياه في الحجُرات ألفِساح
بقايا النسور على الملعب
أجول الزوايا عليه فحيثُ
أمرُّ، أمرُّ على مُعشِبِ
أشدُّ يديه، أميل عليه
أصلِّي على صدره الْمُتْعَبِ»(نزار قباني).
كل شيء يتعلق به ها هو أمسى يَسكن العينَ والذاكرة، وحتى حبل الماضي المزهِر بحضوره تراه أنتَ يلتفّ الآنَ حول عنقك بلطف ليَذبحك، ليَذبحك بنُبل ما بعده نبل في غير زمن الرجال..
مِن أين لك يا هذا اللاهارِب مِن قَدرِه بذاكرة المحو يا مَن تَشقى برحيله وأنتَ الحالف ألاَّ تسمح بغير أن تزج بعربة أيامك في هاوية الـ«لا»؟!
لا! لا وألف لا!
وليكن مجنونا من لا يُرَتِّب لرَحى الأيام نهاية أخرى غير رفض الإذعان لها والاستسلام!
عند هبوب الموت، تنطفئ الشموع، وتشتعل الدموع، ولا يَعرف هذا الإنسان الواقع شرّ وقعة في حفرة الفقدان غير الاستسلام لسَوط اللاحياة وهو يَجلده جلدَ المذنِبين، مع أنه هو المسكين لم يأثم إثما ولم يَخرق قاعدةَ دِين..
عن الغياب والحزن وخمود جذوة الاشتياق، عن الحنين والبكاء والوجع ونَفَق الفراق، ها هو ذا الشاعر نزار يَعود بإصرار، يَعود ليفتح لنا بابا ونافذة على أعماقه الشاردة تلك التي نكتشف فيها جِراحا بطلُها الأب الغائب..
الأب!الأب، هذا القِدِّيس الكبير، فتى أحلام الفتاة الأول، وفي حياة كل امرأة رجُل، وأول رَجُل في حياة المرأة هو الأب.. !
الأب!الأب، هذا الهَرَم الكبير الذي مازال يخبئ الكثير والكثير مِن كنوز الحنان وعجائب الزمان..
الأب!الأب، هذا الجبل الذي لا يُسَوِّيه بالأرض مأزق ولا أزمة ولا حرمان ولا تعب ولا غبن ولا خذلان.. إنه الأب!
«أماتَ أبوكَ؟
ضلال أنا لا يموت أبي»(نزار قباني).
لا مجال للاختيار أمام الشاعر نزار، لذلك نَجِدُ الشاعر يستهلّ نصه الشعري الحزين، بما يُبَلِّل حلقَه مرارةً من جرعات الألم، يُسجل أول استنكار..
إنه الاستنكار بقوة، الاستنكار الصارخ ذاك الذي يرفض الاعتراف بحصاد الدنيا التي تتشتت فيها تفاصيل حياة لم تكن يوما صغيرة، حياة تكبر وتكبر بقدر ما تكبر مكانة هذا الأب الذي رحل وما رحل..
أليس هذا هو الاستنكار الضارب بحصيلة القضاء والقدر عرض الحائط؟!
أليس هذا هو الاستنكار الرافض بقوةٍ للتصديق نظرا لوقع الحقيقة الساقطة كاللعنة؟!
أليس هذا هو الاستنكار الجاثم كالصاعقة تلك التي نزلت على الشاعر ما أن التقطت كفَّا القَدَر روح أبيه وجعلته يُكذِّب الواقع تكذيبا؟!
أحقا رحلْتَ يا أباه؟!
وكيف لك أن تَرحل وتَسحب معك بساطَ الروح الْمُقْتَلَعة اقتلاعَ الشجرة الضاربة بجذورها في أعماق الواحد مِنّا؟!
ومِن أين لنا بِبابٍ نفتحه للصبر الرافض قَطعاً للبقاء بعد رحيل الروح؟!
وكيف لنا أن نتحمل انتفاضة عصافير الوجع في دواخلنا أو يَطيب لنا الصهيل تعبيرا عن الاحتراق والتَّشَظِّي إلا كما يَصهل حصان مذبوح؟!
عندما يَحلّ الموت تَراه يختطف أنفاسَك دهشةً وتَراك تُجابهه لوحدك، تجابه لوحدك سَورة الحياة في درجتها الصِّفر، تُجابه اللاعودة واللابقاء في ذروة اشتعال الرحيل (وحتى اللارحيل)، يَسود الغموض، تُخَيِّمُ الفوضى اللابَنَّاءة، فلا تَفهم حينها شيئا يُذْكَر..
موقف الموت يا صديقي يُعلمك أن تتحمل أن تُصفَعَ صفعَةَ ما قبل التلاشي والتبدد، ولْتَتَصَوَّرْ يا صديقي، يا صديقي، معنى أن تتلاشى وتتبدد وعيناك مفتوحتان..
كأنك في موقف نزار تتوسل طيفَ الانتظار أن يَمتصّ شيئا مِن ذوبانك أنت الممدَّد على صفيح النهاية الساخن، تَصرخ ولا صراخ، تبكِي ولا بُكاء، تَبحثُ عن فَمِكَ الضائع منكَ فلا تَجِدُه، لا تَجِدُه لأن يَدَكَ تُشَلُّ فلا تَعرف الطريق إلى فَمِكَ..
تتجرح مُكرها يا أنتَ كأسَ الرحيل، تلتقط عيناكَ مَشهَدَ طلوع الروح وانهيارَ الجسد وتُلَمْلِمُ أُذُناكَ الضائعتان، في ذروة ارتفاع الأصوات الصارخة، تُلملمان قوتهما لتُسَيِّجا توثيقيا صوتَ السقوط الموجِع..
أفلهذا رأى نزار أن من الافتراء الاعتراف بموت أبيه؟!
أفلهذا كان ردُّه استنكاريا جوابا على من يُحاولون التأكد مِن حقيقة موت أبيه؟!
أحقا يموت لنزار أبوه؟!
أوثمّة حقيقةً أبٌ يَموت؟!
«أنا لا يَموتُ أبي».. هكذا باستنكار يُجيب الرقيقُ نزار..
ومَن يجرؤ على القول إن الأبَ يَموتُ وكُلّ شيء يُذَكِّرُكَ بالأب: نظاراته التي ترتجف بين يديك وهي تسأل عن عينيه، حقيبة نقوده الصغيرة تلكَ التي تَبكي على فراقِ جيبِ قميصه، مفاتيح سيارته تلك المركونة كما اتفق منذ غيابه، بطاقة هويته تلك التي تبتسم لك صورته فيها ابتسامةً حزينة تُوقظ كل الذكريات لتقطع حبل ارتباطك باللحظة الراهنة، بطاقة تأمينه الصحي التي تُخاطبك «ما عساكَ تَفعلُ بي وقد رحل الغالي؟!» قميصه الملطخ بدم الاحتضار على مشارف النهاية ها هو بين يديك يسأل عن أبيك، جواربه المعانِقة لأصابعك يتسلل منها إليك دفء قدميه وحرارتهما، سرواله الساخن بحنانه وبأشواق يديك إليه يحدثك عن ليل العذاب ذاك الذي يَنصب لك خيمته ويفترش الأرض قابعا في انتظارك..
أشياؤه.. أشياء أبيك، أشياؤه تُناديك، فإذا بِكُل لغات جسدك تتعطل، وما مِن شيء يَستجيب إلا دموعك النازفة بحرارة في غياب قدرتك على الصراخ..
أحقا هناك أبٌ يَرحل؟!
أحقا هناك أب يموت؟!
وكيف له أن يَموت وذكرياتُه الجَلاَّدة لا تَموت؟!
إنها قصة كبيرة، قصة بطلتُها الدموع، إنها قصة كبيرة تُسَمَّى الأَب.. وإنها بداية قيامةٍ صغيرة لحظاتُ رحيله..
(يُتبَع بإذن الله).
copy short url   نسخ
15/09/2019
2623