+ A
A -
بقلم: د. سعاد درير

سُئِلَ رَجُل مِن الصالحين: كيف هي علاقتُكَ بالدِّين؟ فقال: هو ثوبٌ تُمَزِّقُه المعاصي، ويُرَقِّعُه الاستغفار..
أكثر ما يَدفعُنا إلى أن نَسوقَ هذا الكلام هو صورة الغلاف التي تُشكل أول جِسر يَمتدّ بين القارئ ومضمون كِتاب «كلمة حَقّ» للإعلامِيّ محمد حمد المري المتألِّق بحُضوره في مَشْهَد الواقع (العربي) المعاصِر..
ما يُمَزِّقُه الساخطون على وضعية التقدم الذي تُحققه «قطر»، والرافضون لوجودها رغم وجودها، يرتقه القلمُ البريء مِن هزة إعصار صَنَعَتْها دُوَل الحصار..
حُبّ الوطن إيمان، حُبّ الوطن دِين، والوفاء للوطن والولاء له عقيدة الصالحين.. مِن هنا، كيف لا نَتوقع مِن الابن البارّ ألاَّ يؤسس للانتصار مهما رقصَتْ رقصةَ النار أذيالُ المتخاذلين الْمَنَّاعِين إلا لتبييت النية وإلحاق العار بِدُول الجِوار؟!
القلَمُ بَطَلُ الصفحة الأولى مِن غلاف كتاب «كلمة حقّ»، إنه قَلَمٌ يتقدم صورةَ الإعلامِي محمد حمد المري.. قلم محمد المري قَلَم مشتعِل، لكنه الاشتعال البَنَّاء لا الهَدَّام، لذلك فإن كل قطرةِ حِبرٍ يهرقها الكاتب تُعيد إلى دائرة الضوء المتماسك ما انفلَتَ وذاب، وتَصل ما انقطع، وتُذَكِّر بِما غاب، وتَبني وتُرمِّم ما سقط وتَهدَّم..
بأصابع نشيطة، نَشاطَ نحلةٍ شَقِيَّة تُدَنْدِنُ بِأَرْيَحِيَّة: «الْمَجْدُ للحَرف»، يستعرِضُ بطولَتَه في سباق الزمن (زمن الحصارِ) القَلَمُ الْمُوَشَّى بألوان راية الوطن، يرتق الثقوب ويَسدّ الثغرات ويَملأ الفجوات..
مِن جانب آخر، تقول قراءة ثانية في صورة الغلاف إن قبضةَ الأصابع الكاتبة تَقهر الجبال وتخترق الحواجزَ وتكسر الجدران التي تضع حدودا وَهْمِية بين الشجرة وظِلالها..
هكذا تنفرد الصورة بالمعنى والمعنى المضاد:
- قلمٌ هَدَّاف يَبني بإصرار..
- قلمٌ حارّ، يُبدِّدُ الجدار العازل الذي صَنَعَه الحصار..
صورةُ الإعلامي الشابّ مُمْتَشِقاً سيفَ الكلمة تَقول إننا في حاجة إلى أقلام شابة تَشتعِل حماسا وتتفجَّر ذكاءً لِرَأْبِ الصدع، واستئناف بِناء ذلك الجِدار، الجِدار الحامي الذي لا يَنهار، الجِدار الذي لا تَسقط لِحُماتِه كلمة ولا يُلْغَى في مَحْفَلِهم قَرار..
قَلَمُنا الرشيق صاحِب البطولة الْمُطْلَقة يُسَطِّر مدونةَ إدارة الحوار قبل اتخاذ القَرار، ويُخَلِّد بِدَمِه الممزوج بلون الحِبر سيرةَ تاريخٍ أسود بالفِتَن، لكنْ شاء له مولاه أن يُبَيِّضَ وجوهَ أبطال الوطن..
إنها سيرة الـ «أَلْف قَلَم وقَلَم».. ما لا نهاية له مِن أقلام تَهدم، وما يُعادِلُ قَلَما واحدا يَبني.. فما أكثر الأقلام القاتلة! وما أقلّ الأقلام التي تُحْيِي!
في ومضات ذكية، يَقول الكاتب محمد المري كل شيء بِفَم الخطوط والألوان التي تجسدها الصورة.. إنه سَلام تواطَأَتْ ضده الأقلام.. فما أسرع أن تُشَوِّهَ مَرايا الواجهة! وما أبطأ أن تَلْتَمِسَ الخطة والطريق إلى مسح التشوه!
هذه مقالات مضغوطة تَحكي حكايةَ أيامٍ صعبة تجاوزَها بذكاءٍ مُتَّقِد الشعبُ وحامي البَلَد.. هذه كلمة حق لا تختلف عن قِطعة طُوب تؤسس وتبني.. بِناء الإنسان.. بِناء القيم.. بِناء الوعي..
مقالات الكاتب محمد المري مقالات تَشهد عليها موضوعيتها، غير أن هذا لا يعني أن الكاتب ينأى بذاتيته كل النأي، فهو حاضر بقوة بانفعالاته وردود فعله، والأهم من هذا وذاك هو أحاسيسه ومشاعره التي يتقاسمها مع قُرَّائه بما يُرضي بوصلةَ القلب التي لا تُخطئ الاتجاه، فإذا به يَحصد سنابل التعاطف في حقل الإنسانية..
«كلمةُ حَقّ» تتمدَّد على طول 70 عَيِّنَة مِن المقالات.. في هذه المقالات يَستوقفنا أسلوب واضح، بعيد كليا عن التعقيد والغموض، اللغة السليمة، الجمل القصيرة، الشذرات الشعرية وسِواها..
العناوين التي التقطها محمد المري لمقالاته عناوين منسجمة تمامَ الانسجام مع المتن، وإن كان الكاتب يعمد فيها إلى التشويق والإثارة وفتح أكثر مِن قوس يَدعو القارئ إلى الإبحار في المتن طلبا لتكملة..
غير أن الرائي بعين التأمل لا شك في أنه سينتبه إلى قصدية الخروج عن النص كلما تعلق الأمر بصياغة عنوان لا يختلف عن تسديد هدف في مرمى الخصم: بتشوف يا الجبير: علموا ترامب، خوش أمديد، Emirate gate، يا وجه استح، الهياط السياسي..
النفَس الشَّقِيّ يُلهب صاحب الذائقة الحَيِيّ الذي يَترك جُبَّةَ الوقار جانبا وينزل إلى الملعب، لِيُمَرِّنَ أقدامَه/‏ أصابِعَه الحالفة أن تُفَصِّلَ مِن قِيطان وخَيْش اللهجة الدارجة كرةً حديدية تُسقِطُ أسنان الخصم الأَمَّار بإعدام الأمان والسلام..
عناوين استفزازية تردّ على الصفعة بصفعة تَزِنُ أضعافها في ميزان القوة والدهاء، وإن كان بِناء بعض العناوين (الصراخ على قدر الألَم)، وجانب مِن اللغة عامة، يتصبب بإحساس ما يُلهِبُ الفئةَ المرهَفة المشاعِر من الناس..
لِنُسَمِّ هذه النخبة من مقالات الإعلامي محمد المري ذاكرةَ الحصار.. عبر هذه المقالات يخاطب الكاتب القارئَ بلغة العاطفة، وبمنطق الإقناع بالحجة القاصِفة..
كتاب «كلمة حق» خِطاب يُدَوِّن بمداد الاعتراف والتحليل والتأطير سطورا لا تَخرج عن قراءة مواكِبة لجديد المشهد الخليجي الأخير، بل والعربي بالقدر نفسه، والغربي (لِمَ لا) متى اقتضى الأمر ذلك..
غير أن معركة الحصار أكثر ما تصدى له الكاتب، واقفا عند الحدث، مسجِّلا الموقفَ، ومكمِّلا المشهد على امتداد زمن الحصار الذي جاءت المقالات ناطقة بلسانه..
خط التحرير المشتَرَك بين هذه المقالات الراصدة والعارضة يؤكد قوة التحامها ونضج مستوى ترابطها، وبالتالي لا مجال بحال لإنكار تأثير هذه المقالات ومدى خدمتها لشاهد الحق من حيث القبض على الانفلات والتصدي للهجمات الشرسة المضادة لإرادة شعب والهاتكة لتاريخ أُمَّة..
مع كل مقال جديد يَستأنف الكاتب رَسْمَ جانب آخَر مِن لوحة قطر تحت مظلة ليل الأزمة، إنها الأزمة التي ما عاد يُحسِن صُنَّاعُها إدارتَها في ضوء الْمُستجَدَّات الراهنة تلك الصارخة بألوان جنونها الماجنة، لكننا رأينا المري في كل مرة يَلتَقِط نَفَساً طويلا قبل أن يَفتح فمَه آذِناً بمرور كلمة تَكون لغيره مُلْهِمَة..
المضمون المعرفي لا يَغيب حُسْنُ الطرح والتقييم عن كاتبه الحكيم، لا يَغيب بسياقه التاريخي، لا يغيب برؤيته الاستشرافية، لا يَغيب بتقييمه لكل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي وتكويني وثقافي وما إلى ذلك..
رحلة الكاتب شاقة وممتعة، من بداية السقوط في مصيدةٍ لغير الجرذان، إلى رصيف صُنّاع التاريخ في معركة الحصار، إلى قلعة «حكيم الكويت» المحمية، إلى جرائم بني ظبيان، إلى منجم معدن الحُبّ والصفاء في قبيلة الطيب أردوغان، إلى أصالة سلطنة عُمان، إلى الدائرة المغلقة ولغز تَبَخُّر جمال خاشقجي، إلى محور «الجزيرة» وأصابع الاتهام، إلى الهامش الضيق للمتلقي ومواقع اللاتحديد الأَمَّارة بها صناعة الاستحمار غير الْمُنْتَظَرَة مِن بعض صُنَّاع القَرار..
تَخُون الكاتبَ كلماتُه قبل أن يَقبض بِيَدٍ من حديد على مُحَرِّك قلبِه خَشْيَةَ أن يَقفز من مكانه حالفا ألا يُصَدِّقَ ما تَحمله مرآة الحقيقة.. لن يَكون هذا بالطبع وقع الصدمة على المري فحسب، لكنها وطأة البشاعة تلك التي تَسرق من القلب الشجاعة ليقوى على التَّقَبُّل..
محمد المري يتأسف بمرارة في إيحاء يتخذ طابع كوميديا سوداء، ولا يختلف اثنان في أن روح الدعابة التي عَوَّدَنا عليها تُخفف شيئا ما مِن لون الواقع القاتم، مما يُصَيِّرُ جانبا من الوقائع التي يسردها المري ويحللها أقرب إلى كوميديا سوداء تَعرض في قالب مضحك (أحيانا) ألوانا من البكاء..
من جهة أخرى سيشد القارئ القطري (والخليجي الغَيُور) بحرارة على يَدِ الكاتب، لا لشيء سوى لأن قلمَه الْمَرِح يؤكد بأن ما مِن شيء يكسره أو يَطويه، وبأن الأحداث كلما ازدادتْ بشاعةً ازداد قلمُه صلابةً وحِلْماً بعيدا عن سياسة التهور..
طريقة عرض المقالات وسياستها وتوجهاتها تَقول إن الكاتب متمكن مِن أدواته النقدية ولا تَخونُه تقنيات العرض والتحليل ولا ميكانيزمات وآليات الدفاع..
حِرْصُ الكاتب على العناية بمقدمة مناسبة تَفتح الباب لكل مقال يَجعل من المرغوب فيه أن ينجذب القارئ بغواية إلى عوالم المقال الداخلية. وفي السياق نفسه، تُحْمَدُ للمقال رشاقة الخاتمة التي تأتي دائما في صورة تَشدّ القارئ إلى المزيد من المتابعة لمقاربات الكاتب اللاحقة..
على مستوى اللغة، يُوَقِّعُ الكاتب مقالاته بلغة عربية فصحى يُطَعِّمُها هو بين الفينة والأخرى بشيء من اللهجة العامية لتمرير أكثر من رسالة لا يختلف في معناها «ابن البلد»..
لغة «كلمة حق» لغة طَيِّعَة إلى الحد الذي يُؤَهِّلُها لتمرير الرسالة المراد تبليغها، فالحروف تتسابق للرسم بالكلمات، والفكرة تَخْتَمِر بالقدر الكافي حتى تَلين وتتمدد بما يَشتهي العقل.
ليس في مقدمة غايات ومرامي الإعلامي محمد المري توصيل أكثر من معلومة إلى قارئ ما عاد متعطشا للمعلومة، ولكن ما يَرومه الكاتب هو إكمال رسم الصورة قبل أن يُفَصَّلَ الْمَشهَد على هوى ما يُريده قنَّاصُ غير الحقيقة..
الكلمات يمددها الكاتب كيفما شاء، وتَراه أحيانا يَعمد إلى استعراض عضلات قَلَمِه من خلال إفراغ الكلمات في غير قوالبها الأصلية لِيُكْسِبَها أبعادا جديدة ليس من السهل الوصول إليها في غياب الحكمة والشطارة وفنون الكتابة الوَلاَّدَة للمهارة..
الأسلوب يَجمع بين القولبة والشهادة والاستشراف والتشويق دون أن يَخلو ذلك من حسّ ساخر يشكل المعادِل لملح الطعام.. والجاذبية حاضرة بقوة على مستوى المتن وعلى مستوى العنوان، ففيهما معا نصيب كبير من الإمتاع والمؤانَسة..
الحجة الدامغة لا شك في أنها ستفضي إلى الإقناع والتأثير، ولهذا ما كان لخِطاب الحِجاج في مقاربات المري إلا أن يُخْرِسَ الساكِت عن الحقّ ويَدحض المقاربات المضادة تلك التي تأتي مِن أقلام تَقْتَات على ألفُتات..
كتاب «كلمة حق»، كلمة حق لا تُصَفِّقُ شفاهها لطبول الباطل.. هذا ما حرص الكاتب الإعلامي على أن يَكتبه بحبر رَجُل المواقف الشاهد على تاريخ الحصار، رجُل الحقيقة الثقيلة شهادته في ميزان بَتْر سِيقان الكذب والتلفيق وإنصاف أبطال زمن الحصار الذين صنعوا التاريخ الْمُشَرِّف، لكن بِدون دِفْءِ حِكْمَةِ كبيرهم ما كان لهم إلا أن يَتَوَسَّدُوا وِسادةً فارغةً..
مقاربات المري في «كلمة حق»، بِسعة ثقافتها ووضوح لغتها وجاذبية أسلوبها وغزارة حُجَجِها، تُغري بأكثر من قراءةٍ فيها وتَحليلٍ للراغب في إعادة قراءة التاريخ، ومَن ذا الذي لن يَضمّ صوتَه إلى صوت شاهد مِن العصر لا يَخونه حِذاءُ الإصرار ولا يلجم لسانَه غيابُ الحوار..
مِن قلب «كلمة حق» يتسلل إلى العقل الذي يَحترم مَن يقرأ له كاتِبٌ مفعم بالطاقة والحيوية، ولا يحتاج قلمُه إلى شهادة تزكية، كاتِب يَقبل الرأي الآخَر شريطة ألاَّ يُفسِد للود قضية، ولسان حالِه: أَرَاهُم يَقولون.. فَلْأَدَعْهُم يَقولون.. ولْأُدَافِعْ بجنون..
كانت هذه مِساحة حُرَّة.
copy short url   نسخ
08/09/2019
2424