+ A
A -
بقلم :
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
بِنَفَس طويل أَطْوَل مِن صرخة حَلق الأيام الطاعنة في المكر والتِّيه وبأصابع لا تَعرف الطريق إلى أن تَتثاءَب، ها هو الشاعر بقدميه تجتاحهما وطأةُ رَحى المشاعر يستدرجه إلى شواطئ الثورة قلبُه السابح في مَلَكُوت ضيق تَحدُّه قضبان قَفَصه الصدري المتشنِّج من فَرط ضمور العضلات..
مع أسوأ توقع لِلَحظاتِ انفلات الحياة، ها هو يَمضي الشاعر على ظهر قارب إحساسه ذاك الذي لا ينطفئ، بل يَزيده مجداف نَفَسِه الشعري الصادق اشتعالا وتوهُّجا مهما فترَتْ رغبةُ الحياة في احتضان قَبَس نوره ليَشتعل أكثر فأكثر وجهُها المضيء به..
فتوحات شاعر مِن العيار الثقيل على شاكلة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب لم تَكن يوما قد هَبَّتْ رياحها بالصدفة أو ترسخت أبجدياتها بشكل اعتباطي، فالشاعر خبرَ أدغالَ الكتابة الشعرية وأَبْحَرَ في محيطات اللغة التي يَكتب بها ولم يَفُتْهُ أن يَستحمّ بماء بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويَستظل تحت أفياء القافية تلك التي شكلت لديه الْمُعادِل لمقطوعة الموسيقى التصويرية في الصناعة السينمائية..
وإذا كنا قد استجبنا يا صديقي لموعد ضربه لنا باب «بين حرفين» في وقت سابق مع «المومس العمياء» التي كان الشاعر بدر شاكر السياب قد تَفَرَّغَ لرثاء أحوالها وأعلن تَعاطُفه معها، فإننا نَعود اليوم لنضرب لنفوسنا موعدا جديدا مع رائعة مِن خالدات القصائد العربية الموقعة باسم الشاعر الْجَسُور، ألا وهي قصيدته «حَفَّار القبور»..
«وتنفس الضوء الضئيل
بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام
فانجاب عن ظل طويل
يلقيه حفار القبور» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
«حفار القبور» نصٌّ لا أَخالكَ قد غاب عنك يا صديقي انتماؤه الواقعي الاجتماعي، وكما لا يَفوتُك فإن أكثر ما يُمَجِّدُه حفار القبور بشكل عام هو الموت لا الحياة، وما فلسفة تمجيد الموت إلا إخلاص للرغبة في استمرارية الحياة تلك التي يتوقف حضورها على غياب الآخرين..
بهذا الفهم اللامنطقي مِن وجهة نظر إنسانية، يَرسم لنا الشاعر حدودَ شخصيةٍ بُوهِيمِية هَمُّها الامتثال لسلطة الغريزة، ومن ثمة يَطلب حفار القبور الموتَ بقوة للنوع البشري إرضاءً لرغبته الجامحة في شيء (بل في الكثير) مِن الخمر والجنس..
«واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين
والطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام
فلتمطرنهم القذائف بالحديد وبالضرام
وبما تشاء من انتقام» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
لذلك يبدو حَفّار القبور أقرب إلى حيوان ممسوخ، فلا شيء مما يدرّه عليه موت الآخرين مِن مال تَستوطنه البَرَكَة، وهو ما يُحيلنا في نهاية المطاف على مفهوم الموت الحقيقي..
«كفّان جامدتان أبرد من جباه الخاملين
وكأن حولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وفم كشقّ في جدار
مستوحد بين الصخور الصم من أنقاض دار
عند المساء
ومقلتان تحدقان بلا بريق
وبلا دموع في الفضاء» (بدر شاكر السياب، قصيدة حفار القبور).
إن كُلّ أولئك الذين شَيَّعَ ذووهم جنازةَ الواحد منهم لا يَخرج موتُهم عن موت مجازي، أما الميت بحق فهو حفار القبور هذا الذي يصوره إحساس الشاعر كائنا مشوها لا يتجاوز عتبةَ اليل إلا ليتعثر في ليلٍ أشدّ سوادا منه..
برؤية سردية ضاربة في العمق الفني الواقعي، يجسد بدر شاكر السياب الوجهَ المظلم لشخصية ميتة الإحساس، شخصية تتواطأ مع ديدان الأرض في النيل مِن كبرياء جُثَّة.. بل أكثر مِن هذا يحدد لنا الشاعر مسافة الوقاحة في أشد المشاهد حقارة، ولْنَتَأَمَّلْ المشهَدَ التالي:
«واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه
واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى
واخيبتاه
كم جثة بيضاء لم تفتضّها شفتا حبيب
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب ولا أنال
إلا الحنين
وألف أنثى تحت أقدامي تنام
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال» (بدر شاكر السياب، قصيدة حفار القبور).
إنه الحفار، الحفّار الأحقر مما يعيث فسادا تحت حذائه، ما زال منفيا في مرمى أوهامه الباحثة عن كينونة، لذلك مافتئ هو يَحلم بجثث الحسناوات مِن أولئك اللواتي يَتحسَّس صدورهن بعينيه المخمورتين المحمرّتين شهوةً وكأنه يَستكثر عليهن فِراش القبور قبل أن يَقتادهُنّ إلى فِراشه..
أكثر من هذا، فإن حفار الشاعر السياب يَعرف جيدا أن الحظ لن يضرب له موعدا مع واحدة مِن فاتناته اللواتي يَجْعَلْنَ كَفَّيْه ترتجفان عندما تَحملان أجسادَهُنّ الناعمة إلى مثواهنّ الأخير..
وحتى القذِرات اللواتي يَنتظرن أشباه الرجال كهذا الحفّار في الخمارات لن يَبلغن شيئا مِن نقاء وطهارة مَن يَعبر هو بهن جِسرَ الطريق إلى الآخِرة، لذلك تَظلّ صُوَر أميراته الميتات عالقة بجدار الذاكرة..
«وكان حفار القبور
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
يرعى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئاب
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
يصور لنا الشاعر حفار القبور كما لو كان شخصا نَذْلا حقيرا، فكل مبتغاه هو ذيل من الموتى يَجلد صرخةَ الجوع، بما فيه الجوع العاطفي والجنسي، ذاك الجوع الذي يُصَيِّرُه طالبا للموت، لكن مأساوية القصة التي يَحكيها بلسان الشعر تَكمن في أن لظى الحرب غاب عن قريته:
«ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب؟
أين السنابك والقذائف والضحايا في الدروب؟» (بدر شاكر السياب، قصيدة حفار القبور).
فأين غاب لَظى الحرب هذا؟! ولماذا؟!
لقد غاب بعيدا، أَبْعَد من حفرة تَحلم برائحة جُثَّة، غاب اللظى ليَحصد الأرواح في أماكن أخرى قَصِية نائية أَبْعَد ما تَكون عن موطئ قَدَمَيه..
فكيف للحفّار البائس أن يُعانق بأصابعه قطعةَ النقود، وهيهات لأولئك الجنود هيهات لهم ألاّ يَقُصّوا ضفيرةَ رغبات حفار بغير مقصّ الأقدار؟!
لا موتى.. لا موتى..
«نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح والنهار
فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة وهي توشك أن تضيق بساكنيها
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور...
ما زلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا
ليت عيني تلتقيها
وتخضهن إلى القرار وكالنيازك والرعود
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي
من كل شبر في المدينة ثم تنظم كالعقود» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
سفينة الحلم تجري على غير مجرى هوى حفّارٍ قَذِر، حفار هو بَلَغَ من القرف ما بين العته والجنون، فلا نار اشتهاءاته تَخبو، ولا حذاء الحكمة يستقر عند باب سَيّد المجون..
فكيف للحفار أن يُصَبِّرَ نَفْسَه على ذبالة شمعة رغباته تلك التي تَحرق ولا تحترق؟!
وكيف للحفار أن يُمَنِّيَ نفسه بمساء آخَر لا يسمح لكأس الشهوة بأن تندلق؟!
«هو ذا المساء
يدنو وأشباح النجوم تكاد تبدو والطريق
خال فلا نعش يلوح على مداه ولا عويل
إلا النعيب
وتنهد الريح الطويل» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
ماذا سيحمل الحفار السِّكِّير الحقير إلى زوجته التي تنتظره على مرّ الأيام؟!
وما عساه يحمل إليها من بشائر الموت الزؤام؟!
لقد مضى أسبوع..
أحقا مضى أسبوع؟!
أليس كثيرا يا رب؟!
هكذا نتصور الحفار يُرَدِّد بينه وبين نفسه، بعد أن غابت عنه نعمة الجثث أسبوعا كاملا، وأقَسْمَ الموتُ ألاَّ يَعِدَه ويُمَنّيَه..
«يا رب أسبوع طويل مر كالعام الطويل
والقبر خاو يفغر الفم في انتظار
في انتظار
ما زلت أحفره ويطمره الغبار
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
إنها دوامة خيبة، بل لِنَقُل إنها آثار حوافر دابة تركض ركضَ القَدَر الذي لا يمهلك شيئا مِن الحكمة قبل أن يَعبركَ، فإذا بالحفّار يَستعصي عليه اتخاذ القرار لإنهاء بطولته في مسلسل الجنون..
وتشرق شمس الحظ العاثر لتتسلل إلى المدفن خطى تتبع جثة، فإذا ما مِن جثة سوى المرأة التي خبأ له القدر في يد من يرافقها آخر نصيب من المال قد منحها الدهر إياه قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة..
يريد الشاعر أن يمرر هنا عددا من الرسائل، لا سيما أنه لا يتردد في إحاطتنا علما بغليان الجو النفسي الذي تتخبط فيه الشخصية المنقادة لغرائزها وأهوائها..
هل هي دعوة للحفار إلى طرق باب التوبة عن عاداته السيئة وتغيير نشاطه المهني؟!
هل هو سَحب لبطاقة الثقة في الحياة مع كل الإصرار؟!
هل هو موقف المراجعة والتقويم يفرض نفسَه كمدخَل لدعوتنا إلى التريث والإصلاح؟!
أم هي الرمزية التي تتكئ عليها بطولة الحفّار ذاك الذي يلقي بظلاله على أكثر مِن طُغاةٍ مُفسِدين ومتلاعِبين بشفرة القوانين وضحايا من الشعوب والأفراد الماضين في مهبّ الريح؟!
البنية السيكولوجية يستعرضها الشاعر بدر شاكر السياب وهو يغوص في تجسيد المناخ الوجداني لشخصية منبوذة مثل سَيِّد القبور الحفّار ذاك الذي نَأَتْ عنه رحمة الأقدار..
وهل مِن شخصية أكثر تجسيدا لحالة اللاحياة من حفار ذميم يُصَوِّر له عقلُه أن «عزرائيل» نفسه قد مات بعد أن تعطلت لغة تشييع الأموات؟!
لا شيء يحيط بحفار القبور غير أصوات الغربان تلك التي تُعلن وضعيةَ اليأس من التحاق الجائعين والطاعنين في السِّن ومَن هُمْ على مشارف الرحيل (دون رحيل) بأُمّ القبور:
«وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب
باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين
لا يهلكون
علام تنعب إن عزرائيل مات
وغدا أموت
غدا أموت» (بدر شاكر السياب، قصيدة حفار القبور).
أليس حفار القبور هو ذاك الذي يَصْفق خلفَه بابَ الحياة ويُصَفِّقُ للموت بضربة فأس تُعيد الطينَ إلى الطين وتُغدق عليه شيئا من النقود التي لا تكفي ليملأ بها فمه هو الذي لا يَصوم عن شهوتيه..؟!
فلماذا يخشى الموتَ هو؟!
أليست حياته رهينة بموت الآخرين؟!
أليس معنى هذا أن بقاءَ أرواحهم لصيقة بأجسادهم اعتراف بموته الوشيك هو حفار القبور الذي لا يُريد أن يموت؟!
الجو النفسي لعالَم حفار القبور يُمَهِّدُ له الشاعر ابن «جيكور» بوصف المجال البيئي الذي تتواجد فيه الشخصية الراغبة في نهش اللحم الآدمي قبل أن يَجفّ دمه:
«ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديم» (بدر شاكر السياب، قصيدة حفار القبور).
إنه جَوّ أَقْرَب إلى قَصْفٍ مُرْعِب لأَرواح شِرِّيرة تختلس شيئا مِن الضوء الذي تَنبضُ به الْمُهَج المتمددة على سرير الطمأنينة قبل أن يَمْتَصَّها الغياب..
عن حالة الغياب هذه يتحدث إلينا في أكثر مِن مناسَبةٍ ومقامٍ صاحبُنا بدر شاكر السياب الراغب في أن يُشركنا معه في رحلة نفسية إلى جوف مغارة أنفاس إنسان يختزل الحياةَ في خَمَّارة وفتاة..
نيران رغبة حفار القبور لا تَهدأ، لا تهدأ هي حتى بعد أن يَهدأ المساء، لكن مِن أين للمخمور عن الحياة بكأس الرواء؟!
ليس أمام مجنون رغباته وأسيرِ شهواته إلا أن يَرفع يديه إلى مولاه، لا تخشعا وندما، إنما طلبا للَعنة تُبيد سلالة البشر:
«وهز حفار القبور
يمناه في وجه السماء
وصاح رب أما تثور
فتبيد نسل العار تحرق بالرجوم المهلكات
أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع
يا رب ما دام الفناء
هو غاية الأحياء فأمُرْ يهلكوا هذا المساء
سأموت من ظمأ وجوع
إن لم يمت هذا المساء إلى غد بعض الأنام
فابعث به قبل الظلام» (بدر شاكر السياب، قصيدة حفار القبور).
وبمنتهى القسوة نَجِدُ الحفار لا يترك الفرصة دون أن يشفي غليله ويستميت في الدعاء لسكان الأرض بالإبادة.. فكيف له أن يمني نفسَه باستجابة هو الذي لا يَعرف كيف ببسط سجاد الصلاة في اتجاه القِبلة؟!
إن توجهه بالدعاء ولو بالموت يضمر شيئا مِن بصيص الأمل ذاك الذي يَعِد به قلبه الأسود، إذ إنه لا يشك على الأقل في وجود رَبٍّ قريب يَستجيب لِمَن دعاه.. ومعنى هذا بالتأكيد الاعتراف بقابلية التغيير على المدى البعيد، إذ لا تَخفى نسبة الاحتمال في أن يكون الغد يوما آخَر في وسعه أن يشجع بطلَ قصة السياب الشعرية على أن يحفر حفرة عميقة يدفن فيها ماضيه..
إن الشاعر بدر شاكر السياب نراه بذكائه الحاد يلتمس بعض العذر لحفار القبور ذاك الذي يُساوِرُنا قُدَّامَه شيء مِن الشك ونحن نقف عند صرخةِ نَدَمِه تلك التي بها يُبَرِّر قساوة ما جَنَتْ يداه:
«القاتلون هم الجناة وليس حفار القبور
وهم الذين يلونون لي البغايا بالخمور
وهم المجاعة والحرائق والمذابح والنواح
وهم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور ويلهثان» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
شاعرنا السياب لا يستحضر أسبابا واهية تُعفينا من مساءلة بطله الحفار، وإن كانت المقبرة هي البطل الحقيقي الذي يَفعل في الحدث ويرسم حدود مكان الحدث ويُؤَثِّث الحدث، لكن الشاعر في المقابل يتأبط الحُجَج الكفيلة بتبرئة شخصيته المحورية وتَصييرها ضحية:
«أنا لست أحقر من سواي وإن قسوتُ فلي شفيع
إني كوحش في الفلاة
لم أقرأ الكتب الضخام وشافعي ظمأ وجوع» (بدر شاكر السياب، حفار القبور).
الشاعر بدر شاكر السياب يَستعرض بشكل عام حصيلةَ محطات الحرمان التي يَعبرها الإنسان، مع الأخذ بعين الاعتبار درجة التصاق الشاعر العراقي بواقعه رغم ما جَلَبَتْ عليه هذه المصالَحة الاجتماعية مِن ويلات ليست بخافية عن مبدِع انتصر لفكرة التغيير ولم يشكك الآخرون يوما في انتمائه القومي والعربي والوطني..
غيرة الشاعر بدر شاكر السياب على الواقع العراقي المزري آنذاك حالَتْ دون أن تُصَيِّرَه صنما أو كائنا خشبيا يتجمد دم العروبة والمواطنة في عروق.. لذلك بات السياب رَجُلَ القضية، الرجُل رقم «1» الذي لا تُغريه مغريات الحياة بِصَرْفِ النظر عما يُؤمن به وما إلى ذلك مما لا يَخُونُه التمسك به مِن اعتقادات جعلَتْ منه صوتَ القضية الذي يوثر السكتةَ العضلية على أن يَلجم لسانَه ولو على سبيل النية..
جَرِّبْ يا صديقي، جَرِّبْ أن تُنصت إلى شريط قديم يحتفظ بشيء مِن أنفاس الشاعر بدر شاكر السياب، فلَعَلَّكَ تَستوعِبُ (بِناءً على ما يَصِلكَ منه مِن إحساس) إلى أيّ درجة تذوب أناه في الآخَر، إلى أيّ مدى يَعتزّ هو بانتمائه الاجتماعي، وإلى أيّ مدى يَتَدَفَّقُ شلال شاعريته هو الذي تَتَمَدَّدُ قُبَالَتَهُ الحُروفُ طَيِّعَةً مستجيبةً لإبحارٍ تُمْلِيهِ لحظة شعرية عابِرة لقارات القلب..
[رَحمكَ الله يا أستاذي منيب (ب)، مع أنكَ غادَرْتَ حلبةَ الحياة في ريعان عَطائكَ منتصرا دائما لِمَبادئكَ وقِيَمِكَ التي لا تتزعزع، فها هي صورتُكَ في مِرآة الذاكرة تَركض بي مسافة سنوات إلى الوراء لِأُمَوْسِقَ أُذُنيَّ بصوتٍ عذبٍ وشجيّ حلَّق به في أرجاء الغرفة المخصصة لمادة الشعر الحديث في رحاب الجامعة شريطُ الإلقاء الشعري المرعِش ذاك الذي اجتَهدْتَ في الاحتفاظ به لنا من زمن نجومية الشاعر السياب].
copy short url   نسخ
24/08/2019
2829