+ A
A -
داليا الحديدي
اعترف الأديب الراحل أحمد خالد توفيق في كلمات موثقة بالتالي:
«لم أكن الصديق الوحيد لأي شخص، لم أكن حلمًا لشخص يحبني، لم أشعر أنني الخيار الأول والأوحد في حياة شخص ولو لمرة.. كنت دائما شخصًا عابرًا في حياة الجميع».
هذه الاعترافات تترجم ألمًا بالغًا تم التعبير عنه بحرفية الكاتب وبوجع الإنسان المكلوم في نفسه من محيطه.
أزعم أن هناك صعوبة بالغة لفهم مراد الكاتب لو لم يختبر المرء مرارة المركز الثاني والثالث أو الأخير.
فإن نسيت، فلن أنسى يومًا زميلة من أرقى من وضعهم القدر في دربي، كانت فتاة ملائكية الملامح تدعى «تيراز»، كانت تتناوب المركز الأول والثاني مع زميلة أخرى عزيزة اسمها «نانسي»، وبأحد الشهور، تم النداء على اسم «نانسي» أولًا وتلاه «تيراز».. وقد تم التصفيق للزميلتين، كما وتم تقليد الاثنتيْن النياشين الرائعة.
ومع هذا، شاهدت الدموع تنسال من مقلتيْ «تيراز» لحصولها على المركز الثاني بفارق درجة أو درجتين ليس إلا.
فرغم أن فضاء الكون يمنح المكان لجميع سكانه، إلا أن هناك نفر من الناس يبحثون عن المكانة لا المكان، ولا يرضوْن سوى بالصدارة، بل ويؤذيهم المركز الثاني.
فالسيدة عائشة على سبيل المثال كانت تتنافس على مركز الصدارة بين زوجات الرسول، فلمَّا أُنزل على الرسول آيةُ التخيير، بدأ بها فخيَّرها فقال: ((ولا عليكِ ألاَّ تَعْجَلي حتى تستأمري أَبَوَيك))، فقالت: أفِي هذا أسْتَأمِر أبوي؟!
فاستنَّ بها - أي: اقتَدَى - بقيةُ أزواجه - وقُلْنَ كما قالتْ، لأنها سارعت بإخبارهن بأن الرسول سيخيرهن، كي يكن حاضرات لإجابة طيبة فلا يُطلقن، ما يعني أنها لم تكن تسعى للإطاحة بغريماتها، لكنها كانت حريصة فقط على مركز الصدارة.
وحتى بين العوام، لكم يسعد الإنسان لو شعر بفرادته وبتميزه في قلوب البعض، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
فللأسف كثير من الآباء يقدمون لأبنائهم الكساء ويوفرون الدواء ويعتنون بالتعليم ويمنحون الغذاء والترفيه، لكن بالمقابل، قلما يحرصون على الإشباع العاطفي، بل على العكس، تجد من البعض اعتياداً على إهانة الأبناء ولا مبالاة في التسخيف من أقوالهم أو اقتراحاتهم، فضلاً عن التجريج والإيذاء البدني والعاطفي.
هذه الممارسات تقوّض ثقة الابن في جدارته بالمحبة وتهز ثقته في قدراته وتدمر اعتزازه بنفسه، مهما قيل له إنك عزيز وأننا نحبك ونريد مصلحتك، لكنه بنهاية المطاف يلمس أقوالًا متناقضة مع الأفعال.
ثم يحدث أن يواجه الطفل تنمراً من أقرانه في المدرسة ولا يجد عضُداً له من أهله، فتتعمق لديه مشاعر سلبية تؤكد له أنه غير مفضل أو غير محبوب أساسا، وبأنه مهان من الجميع، وعليه بذل الجهد الكبير لنيل قبول محيطه، فيشرع يبرر لأصدقائه تعنتهم معه، ويهفو لأي إنسان صالحًا أو طالحًا، بمجرد أن يلمس قبولًا منه، كونه ذاق العنت من الأقربين، فطبيعي أن يتقبله من الأغراب.
للأسف، قلما ينتبه الأهل لضرورة إشباع الابن عاطفيًا واحترامه أمام نفسه كما وأمام الناس، بل وقد يبررون غلظتهم وعنفهم مع صغارهم، بأنه نوع من التربية أو تفاكههم عليهم بأنه نوع من المزاح.
يكبر الطفل ويظل يفتش عن مشاعر الصدارة في صدور محيطه، ومهما سمع «لا أستطيع العيش بدونك أو لا غنى لي عنك» لكن يظل في قرارة نفسه يعلم أن حبيبه يمنحه مشاعر زائفة، لا تتعدى كونها مبالغة مفبركة في المجاملة ليس إلا، لكن فتور المشاعر واضح في العناق البارد والمصافحة الأكثر برودة وفي الترحيب المصطنع وفي عدم الإنصات وفي الابتسامة الصفراء أو الردود المقتضبة أو في الهدية الرخيصة.
فيصل لقناعة أن قدره أن يُحِب لا أن يُحَب، أن ينساق بمشاعره لغيره، وهو يعلم أنه لن تتم مبادلة مشاعره بالوله، فعليه أن يهادي ولا يُهدى إليه، أن يتصل، فيما يتم تجاهله، فيتيقن أن له بديلا، بل بدائل في الحياة، وأنه مجرد عابر سبيل في حياة محيطه.
..
عن نفسي، لم أشعر قط بأنني اعتليت مركز الصدارة في قلب أحدهم، إلا حينما كتب لي أبنائي يومًا ببطاقة معايدة:
«أمي: نحب الكون كله، لكنك أنت وحدك.. مركز أول بين البشر».
كاتبة مصرية
copy short url   نسخ
27/07/2019
1923