+ A
A -
بقلم:
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
عندما تَنام الأحلام، في مواسم الظلام، لن تَجِدَ غير الكوابيس تتجسد بفظاعة على أرض المعاناة، يَسُحُّ دَمٌ ويرتفع دعاء وتتمدد صلاة، ويذوب شمعُ قلبك كما يَصنع بمكعَّبِ زبدةٍ ضَغطُ حرارة مِقْلاة..
إنها عقارب ساعة الحرب تنفث سمومَها في الجسد العربي، والحرب يا صديقي مِقلاة، مقلاة لا يفقه أسرارها سِوى هؤلاء الطُّهاة الذين يتفننون في استعراض البطولات، ولا لحمَ غير اللحم البشري المشوي والمملَّح ذاك الذي يَسيل له لُعاب صُنَّاع تاريخ الحرب الذي أبى أن ينتهي..
طواحين الحرب ها هي ذي تَضرب بجذورها في أرض إلىَمَن، تَحفر لها وشما في الذاكرة العربية الجريحة، وتفتح قبرَ الشاعر عبد الله البردوني ليصرخ في أهل اليمن صرخةَ الثورة هو الذي رأى بِعَين قلبِه ما تُكَذِّبُه عينان اثنتان..
«فظيع جهلُ ما يَجري وأفظع منه أن تَدري
وهل تَدرِينَ يا «صَنْعا» مَن المستعمر السّرّي؟
غُزاة لا أشاهدهُم وسيف الغزو في صدري
غزاة اليوم كالطاعون يَخفى وهو يستشري
يحجر مولد الآتي يوشي الحاضر المزري»
(عبد الله البردوني).
عبد الله البردوني هذا هو نفسه الشاعر الذي أحبَّ اليمن وأخلص لليمن ونادى بعشق اليمن وتفانى في الدعوات بلسان الشِّعر ليُطفئ ليلَ اليمن ذاك الذي كانت ترقص فيه رقصةَ الموت حناجرُ الجوعى والموعودين برحلة حرمان لا يتحمل مسافاتِها إنسان..
«متألم، مِمَّا أنا متألِمُ؟
حار السؤال، وأَطْرَقَ المستفهِمُ
أبكي فتبتسم الجراح من البُكا
فكأنها في كل جارحةٍ فَمُ
وأُعارِكُ الدنيا وأهوى صَفْوَها
لكن كما يهوى الكلامَ الأَبْكَمُ
وأبارِكُ الأُمَّ الحياةَ لأنها
أُمِّي، وحظي من جناها العلقم»
(عبد الله البردوني).
لكن كيف رأى شاعرنا البردوني كل هذا الغبن هو الذي امْتَصَّ الجذري ضوءَ عينيه قبل أن يُتِمَّ ربيعَه السادس؟!
إنه الإحساس بوصلةُ الشاعر، فما بالنا والحديث عن البردوني الثائر! البردوني قاوَمَ الجوعَ بلسانه، حَرَّضَ على الدفاع عن العدالة الاجتماعية بلسانه، حَمَّسَ الشبابَ على الوقوف وقفةَ رَجُلٍ واحد بلسانه، فمِن ثمة كان للبردوني كل ذاك الصدى الذي خَلَّفه عند اليمنيين هؤلاء الذي مازالوا يَجْتَرُّون شِعرَه بألم يُلهِب الأملَ الذي كان:
«سنمشي، سنمشي برغم القيود
ورغم وعود الخداع الردي
فقد آنَ للجور أن ينتهي
وقد آن للعدل أن يبتدي
فلن نخضع اليوم للغاصبين
ولم نَسْتَكِنْ للعنا الأنكد
ومرت علينا سِياط العذاب
مرورَ الذباب على الجلمد
وقل للمضلين باسم الهدى
تَوارَوْا فقد آن أن نَهتدي
وحَطِّمْ أُلوهية الظالمين
وسيطرةَ الغاصب الْمُفْسِدِ»
(عبد الله البردوني).
أفواه تَحلم بالرغيف، وشِفاه تعيش على أمل معانَقة شيء من اللذة حتى لو كانت كسرة خبز يابس انتهى به قَدَرُه في ركن مِن شرفةٍ مَنسية..
إنها تجربة البردوني، الشعرية، تَحكي بشفاه البيت عَمَّنْ قفزَ من نافذة الصمت، عَمَّنْ سرقَ مصباحَ الأمل، عَمَّنْ كسرَ زجاجةَ الصبر، عَمَّنْ أغلق بابَ ألفَرَج..
جُدران الرغبة في الْمُضِيّ تتداعى، وسقف الحكمة تَعيث فيه الشروخ فسادا، والضوء المحتشِم ذاك المتسلِّل مِن ثُقب الباب تَكفر به العيون العمياء إلا عن شهقة الحقّ..
مِنْ أين لِلَيْلِكَ بالرحيل يا مَذبوح؟!
ومِنْ أين لجسدِكَ أن يُصَبِّرَ الرُّوح؟!
«مَن للبيوت الهادمات كأنها
فوق الحياة مقابر الأحياء؟
تَغفو على حُلم الرغيف ولم تَجِدْ
إلا خيالا منه في الإغفاء
وتَضمُّ أشباحَ الجياع كأنها
سجن يَضمُّ جوانح السجناء
هذي البيوت النائمات على الطوى
وتَغَلَّفَتْ بالصمت والظلماء
أصغى إليها الليلُ لم يَسمع بها
إلا أنين الجوع في الأحشاء
وبكا البنين الجائعين مرددا
في الأُمَّهات ومسمع الآباء»
(عبد الله البردوني).
أصبحنا نَعدّ الموتى ومن هُم في عداد المفقودين كما لو كُنّا نَعدّ قطعان الأغنام المتأهبة للبيع في سوق.. لا شيء هنا غير سوق الحياة، ولا شيء يُباع غير هذا الإنسان الطاعن في الأحزان، والفرق الوحيد الذي يُذْكَر ولا يُحْسَب لهذا الزمن هو أن إنسان اليوم أضحى يُباع بأرخص ثمن..
الأسعار ترتفع ارتفاعا حارقا كالنار، إلا نَحن، نحن مَن نندرج تحت مُسَمَّى الإنسان، ليس لنا سِعر..
ما باله هذا الإنسان، إنسان اليوم، أصبح بلا هوية، بلا عنوان، يُضحَّى به لا من أجله، ولا يَكيله ميزان.. !
«يا ليلُ، من جيران كوخي؟ من هُمُ
مرعى الشقا وفريسة الأرزاء؟
وَيْلِي لَهُم مِن بُؤس محياهم ويا
ويلي من الإشفاق بالبؤساء!
وأحسهم في سد روحي، في دمي،
في نبض أعصابي، وفي أعضائي
فكأن جيراني جراح تحتسي
ريَّ الأسى مِن أدمُعي ودمائي
ناموا على البلوى وأُغفي عنهمُ
عطف القريب ورحمة الرحماء
ما كان أشقاهم وأشقاني بهم
وأحسّني بشقائهم وشقائي!»
(عبد الله البردوني).
أكثر ما تَدمع له عيون القلب في غير زمن البردوني هو ما آل إليه الوضع في اليمن على كل صعيد ومستوى، فكأن صاحبنا البردوني منذ زمن سابق يتنبأ بتغير الأحوال مِن سيئ إلى أسوإ..
«أيا من شبعتم على جوعنا
وجوع بنينا، ألم تتخموا؟!
ألم تفهموا غضبةَ الكادحين
على الظلم؟ لابد أن تفهموا!..
أخي، صحوُنا كله مأتم
وإغفاؤنا ألمٌ أبكم
يعيثون فينا كجيش المغول
وأدنى إذا لوح المغنم
ويبنون دُورا بأنقاض ما
أبادوا من الشعب أو هدموا
لنا موعد نحن نسعى إليه
ويعتاقنا جرحنا المؤلِمُ»
(عبد الله البردوني).
الإحساس الوطني القومي يتفجر في دواخل شاعرنا البردوني لِيُنْصِفَ مَنْ لم تُنصِفهم الأيام ولا الوسيلة، إنها رؤية راءٍ خانَتْه الرؤيةُ بالبصر، لكن لم تَخُنْهُ البصيرة، ولم يَحُلْ حائل دون أن يَشحن صرختَه ولسانَه هو المجاهد بسيف الكلمة بحثا عن استعادة زمن الفضيلة..
في اليمن، سيضرب لك التاريخ موعدا مع الشجن، قهر وبطش ونكران، وما تلا ذلك من امتهان لسيادة الإنسان، سيادته على نفسه الأَمَّارة بالمطالبة بحَقِّه في الحياة، إنها الحياة المرغوب فيها عند البشر، فمِنْ أين لهم بالحقّ في الحياة هُمُ الصامدون صمودَ الحجر والمقسِمون على الموت واقفين كالشجر؟!
«هل يموت الشر؟ هل للخير في
زحمة الشر سِمات ومَزايا؟
هل هي الدنيا التي تحرمني؟
أم تَراخَتْ عن عطاياها يدايا؟»(عبد الله البردوني).
عناوين مؤلَّفات عبد الله البردوني شاهدة على علو كعب شخصيته في مجال الولاء لبلده اليمن، بلد وَهَبَه الله كل خير ونعمة، لكن شاء له المتناوبون على القيام بأمره أن يُحَوِّلوا النعمة عند أبنائه إلى نقمة..
بحنكة خبير في اللغة، متمكن مِن أدواته، مضى الشاعر اليمني عبد الله البردوني في صقل إحساسه ليَشعر بما لم يشعر به الآخَرون، شعور هو ذو تركيز عالٍ صَيَّرَ البردوني قامةً شعرية راسخ اسمها في جدار ذاكرة التاريخ العربي الحافل ببطولات أبنائه الأوفياء لأوطانهم..
هو ذا البردوني الشاعر بمآسي مَن خانَتْهُم الألسنة وسقطَتْ شِفاههم سَهْواً في الطريق إلى حقول القمح الهارب من تاريخ ألفَم المناضِل بالأنين..
جَوعى هُم ضلُّوا الطَّريق إلى الرغيف، وانحرفَتْ خُطى أقدامهم إلا عن أشواك لا تَعِدُ بموعد مع الورد.. حُفاة هُم، عُراة هُم، فمِن أين لهُم بقُضاة في محكمة الإنسانية غير قُساة بالقول والنية؟!
مِن أعماق قلب اليمن المذبوح، ها هو يَستفيق تاريخ شاعِرٍ طفق يطلق النار بصوته المبحوح، شاعر هو لا يَهاب ولا يخشى حفنةَ المتواطئين على سرقة قُرْص الشمس من سماء أبناء اليمن.. ها هو يَرنو إلينا ويَرمقنا عبد الله البردوني بعين قلبه التي لا تنام..
«حين يَشقى الناس أشقى معهم
وأنا أشقى، كما يشقون: وحدي
وأنا يا قلب أبكي إن بَكَتْ
مقلة كانت بقربي أو ببعدي
لم أسر من غربة إلا إلى
غربة أنكى وتعذيبٍ أشدِّ»
(عبد الله البردوني).
في ذروة سخرية عبد الله البردوني وحِسِّه الْمَرِح على مستوى الظاهر (كما يبدو مثلا في كتابته الشعرية عن سلطانة القمل)، لا يَخفى مدى قدرته على تمرير رسائل الرثاء وعدم تفويت فُرصة للضــــحك الممهور بالبُكاء على طريقة الكوميديا السوداء..
«أتدرين يا صنعاء ما الذي يجري؟
تموتين في شعب يموت ولا يدري
تموتين، لكن كلَّ يومٍ، وبعدما
تموتين تستحين من موتك المزري»
(عبد الله البردوني).
عن زمن صنعاء وتاريخ اليمن العريق، عن الوحشة والغربة، عن الألم والنيران، عن جسد المدينة وروح الساكن فيها وليل الأحزان، عن هذا وذاك وغيره يرصد البردوني واقع اليوم ويستشرف القادم من الأيام بحدسٍ يَقِظٍ وضمير لاينام..
ينام أبناء اليمن مُنْهَكِين مِن فرط العبث بأطرافهم ودمائهم، ينام أبناء اليمن نوما عميقا تحت التراب حيث المساحة الفارغة تِلك التي تتحقق فيها الْمُساواةُ تحت الأرض بعد أن تَعَذَّرَ تحقُّقها (المساواة) بين البشر فوقَ الأرض..
ولا تَنامُ كلماتُ الشاعر، ولا يَنام إحساسُه بِلَيْلِ المعذَّبين.
copy short url   نسخ
20/07/2019
2858