+ A
A -
بقلم:
د . سعاد درير
كاتبة مغربية
بِكُلّ جوارحي عانَقْتُها، عانقتُها وهي تَتَبَدَّد بين أحضاني كأنها امرأةٌ مِن وَرَق..
ما أن أَخْبَرَتْنِي «هَسيس» بخبر وفاته، صرخَتْ عيناي، وانتحَبَتْ دموعي على هيكل صمتها المفاجئ.. وبِكُلّ جوارحي عانَقْتُها..
ما أَشَدَّ حُرْقَتَها!
وما أكثرَ مواعيدي أنا مع الوجع!
قالت لي، وهو على بُعد مسافات منها، إنها تَلَقَّتْ خبرَ وفاته بعد عمر جمعَهُما لأكثر مِن عقدين تحت سقفٍ واحد، ولم تُصَدِّقْ أنه حَلَّقَ في اتجاه آخَر وقد تواعدا على ألاَّ يَفصلهما إلا القَبر..
بَلَّلْتُها بعناقي، وبَلَّلَتْنِي بدموعها التي سقطَتْ على صدري كماء الجمر، ماء الجمر ذاك الذي نَشَرَ مُجَدّدا منديلَ أيامي الذي طَوَيْتُه عامَ الحُزن..
واعدَتْهُ، وواعَدَها، وهكذا كان ببساطة..
وهي تَنْتَفِض بين يَدَيَّ، تحت تأثير رصاصة الموت، حَطَّ على رأسي طيف ذكراه، ذكراه هو مَنْ واعَدَني، واعَدَني وأَخْلَفَ..
كَمْ عَلَيَّ أن أَنْسَى أنه واعدَني وأَخْلَفَ!
لكن، هل بِيَدي أن أنسى ما ذرفتُه في غيابه مِن دموع بمجرد أن ذكَّرَني بموعد جِراحَته؟!
تداخل عندي العرس والجنازة، ولحكمة يَعلمُها الله، لا أنا، تراءى لي ظِلاًّ يَقِظاً شبحُ موكب جنازته..
اِنطفَأَتْ مصابيح العرس، وتَدَلَّتْ مُتَوَهِّجةً شُموعُ الحِداد..
بِعُيون الدهشة البريئة، رَنَا إِلَيَّ صِغاري وأنا أُفْسِدُ عليهم لهفةَ استعدادهم للقاء ألفَرَح بمواويل دموعي الشاردة..
كيف أَجْرُؤُ! كيف أَجْرُؤُ على إخبارهم بوهم موتِه الذي سكن مخيلتي وما فارق عينيَّ؟!
صار الأرَقُ حارسي الأمين الذي يَقِفُ عند بابي كُلَّ ليلة، وصار الخوفُ يُسَدِّدُ طلقاته مُتَعَقِّبا ظِلَّ قلبي، والقربان دُموعي، دموعي وما وَفَّتْ..
خارَتْ قوايَ، واجْتَذَبَتْنِي الأرضُ إليها بقوة، وارتَسَمَ أكثر مِن سؤال يَتَمَدَّد حائرا مُنْهَكا في عيون صِغاري..
- «الغُبار، نَعَم، الغُبارُ يُضايِقُ عَيْنَيَّ»..
هكذا بَرَّرْتُ سَكرةَ الموت لصغاري..
اِنتظَرْتُ خروجَ أحدِهم مِن غرفة العمليات عَلَّنِي أسعد برُؤيته هو مَنْ أَكَلَ الحضورَ والغيابَ، طال انتظاري، وقَطَعْتُ الأملَ في نجاح الجِراحة..
رحَلَ الكُلُّ، وبقيتُ أنا، بَقيتُ وحدي..
بعد يومٍ كامل من الاحتضار، وما أَبْشَعَ أن أداري احتضاري في وقتٍ حَرِجٍ، جاءني صوتٌ دافئ يَتسلَّل مِن بعيد إلى سمعي الْمُرْهَف، صوتُه..
أكبر، أكبر مِن فرحةِ طفلٍ بعودة أُمِّه، بعدَ طول غياب، كان نَبْض إحساسي لحظةَ تَأكدتُ أنه ما زال يُقاوِم احتباسَ الأنفاس ليتشبث بالحياة!..
وبَعْدُ؟!
ما جَنَيتُ أنا مِن حياته تلك؟!
لا شيء.. لا شيء جَمَعْتُه في سلّة حصادي أكثر مِن المراوغة والجحود والنكران.. وخدعة أول العُمر!
أكانَ عَلَيَّ أن أحتفظَ بكل هذه التفاصيل الصغيرة في حقيبة ذاكرتي الثقيلة؟!
كَبرَ صِغاري، نَسيَ صْغاري، وما نسيتُ أنا..
وَخْزٌ في القلب أعادَنِي بقوةٍ إلى واقعِ حال «هَسيس» لحظةَ مُصارعتِها لِمَوتٍ مُعْلَن، خِلافا لِمَوت مَنْ كُنتُ حياتَه..
بذكائها الحاد، انتبَهَتْ «هَسيس» إلى حرارة رعشاتي، صعقَتْها أمواج رعشاتي ملء عناقي الشارد..
وبِكُلّ جوارحها، بكُلّ جوارحها عانَقَتْنِي «هَسيس» وأنا أَتَبَدَّدُ بين أحضانها كأَنَّنِي امرأةٌ مِنْ وَرَق..
copy short url   نسخ
13/07/2019
2328