+ A
A -
جلس والقهر بعينيه، يتأمل فنجانه المشروب.
قال: يا أخي التجاهل عليّ هو المكتوب!
بهذه الاقتباسات «النزارية»، أفاض أحد رواد المقهى في شكواه لجليسه.
يبدو أن الرجل كان شاعرا مغمورا، فاستفاض في المجاهرة بضيقه كون إحدى المغنيات نشرت أغنيتها التافهة، فحازت 600 ألف لايك، فيما لم تحصل قصيدته سوى على 17 إعجابا!
كم أزعجه أنهم يمرون على قصائده فيمررونها بتجاهلهم لحلاوتها!
وحديث عن الظلم يؤاخي القهر ويجاور الخيبة ثم طفق يقول:
ليس على الشاعر أن يبخع نفسه على آثارهم، فبضاعة المبدع مزجاة لدى البعض!
وروى قصة طالب علم جاع يومًا، فذهب لسوق الخضار وأعطى الخضري نصف درهم، هو كل ما يملك واستعطفه ليعطيه بقيمته ثمرة طماطم.
رفض البائع متعللاً بأن القدرة الشرائية للنصف درهم أقل من شراء أي شيء!
قال الشاب: أنا طالب لدى العالم الفلاني ولدي من الفكر الكثير، فلتمنحني طعامًا على أن أرده لك علمًا؟
فرد الخضرجي: لو كان علمك يساوي شيئا لأكمل لك نصف درهمك!
عقل الشاب كلام الخضرجي، فقرر ترك دروس العلم والبحث عن عمل يقتات به.
غاب الفتى عن الدروس، فاستفقده شيخه وذهب يعوده، لكن الطالب أخبره بقراره ترك ساحة العلم بعدما عقل حديث البائع.
فقال المعلم: لا عليك ولكني عادة أهدى المتخرجين هدية عقب إتمامهم لدراستهم وهاك هديتك، فخذ هذا الخاتم.
أخذ الفقير الخاتم وذهب لبيعه بسوق الذهب، فاتهمه الصائغ بالسرقة لأن هناك استحالة لشاب رث الهيئة في اقتناء خاتم ثمين، فصمم الطالب على مصاحبة الصائغ معه لأستاذه لإثبات براءته وهو ما حدث، فاشترى الصائغ الخاتم من الطالب بمائة ألف دينار وعاد لدروس العلم، فسأله أستاذه: أي الأسواق ابتغيت حين فكرت في بيع الخاتم
قال: سوق الذهب
فقال شيخه: ولئن ذهبت تبيعه بسوق الخضار لخسف بقدره لجهل بائع الخضار بقيمة المعادن، فلا تبع علمك بالأسواق.
هذه القصة ذكرتني بمئات الكتاب البائسين الذين يعانون ماديًا فمطلوب منهم إنتاج فكر، لكن انتهى بهم الأمر مُعوَزين، والبعض صار أبأس من «العضروط» أي الخادم على طعام بطنه، فهو يعمل مقابل الحصول على الطعام فقط كربات البيوت يأكلن من خشاش الدار.
ولم يرد في المعاجم اسم لمن يعمل بأجرٍ لا يكفيه للحصول على قوت يومه أو من يعمل بلا أجر، ما يعني أن الأكثرية المبدعة في مجال الثقافة باتت أدنى منزلة من العضاريط!
كثر من الكتاب لا يجدون أشهى من نشر أعمالهم، بينما الناشر يريد كاتب أقل من عضروط!
فمهر الكاتب والفنان هو بمثابة وعد غير ملزم بالتقدير يومًا ما، فالأدباء لم يتمنون يومًا ألق «اللعيبة»، لكنهم ودوا تقدير جمهور الملاعب!
فالمثقف يلتحف غطاء المعرفة ليتمهد أسرة التكريم، لكن ينتهي به الأمر خالد الذكر بتخت العراء!
يكتب الأديب معلقًا أمالاً أن «اسفاره» ستبقى بعد غيابه ليفاجأ أنه هو نفسه قد سكن قبل الموت. مات عضروطا يتنفس معرفة لا تسمن من جوع ولا تروي ظمأ شرايين الحياة المادية!
ولا شك أن الأدباء والفنانين أغنياء كونهم يمتلكون ما لا يُمتلك بالمال، إلا أن المفارقة المؤسفة أنهم يعتازون النقد.
فالكاتب يكون أحوج ما يكون لكنّه يُعدم، فيما اللاعب يكون أغني ما يكون، فيُكرم.
هذا يقدح زناد فكره فيُنكر، وذاك يرمي رمية بطرف قدميه فيُعَظَم!
المثقف صار لا ينتظر جائزة لإبداعه، بل أمسى قنوعًا بلقب «رجل الحرمان» على أمل كسول أن يُغَرد له كروان النجاح في صبيحة مغيثة بعيدة!
على وعد غير ملزم أن يثمر نجاحه يومًا عشب أخضر يتكئ عليه أو شقيقة نعمانية تهديه عطرها.
على دعاء أن ترحل عنه كوابيس يقظة أنهكته فواتيرها والتزامات لا فكاك منها!
وهربًا من قساوة لقب العضروط، يلجأ الكاتب للعمل بمهن شتى بحثًا عن حياة كريمة أو للإنفاق على الكتابة الإبداعية التي لا يتعجلها سكرتير تحرير، تلك التي تجعل ثمار قلمه تورق.
فهل يصدق القارئ أن شاعرًا «كالسياب» عمل كعتال، كذواقة وكموظف جمارك؟
رحمه الله ورحم كل مبدع يكافح لينأى بنفسه عن لقب «عضروط» فيما يعيش مآسي بشرية تقتر حبرًا.
كاتبة مصرية
copy short url   نسخ
29/06/2019
2950