+ A
A -
بقلم
د . سعاد درير
كاتبة مغربية
في غير محطات البداية (تَقول الحكاية)، سُئِلَ الرجُلُ العجوز:
- «لماذا تُكلِّف نَفسَكَ في كل يوم عناءَ المجيء إلى المستشفى لتناول وجبة الإفطار مع زوجتك التي أنساها الزهايمر مَن أنتَ تكون؟»..
أطلقتْ رُوح الرجُل المسكينة سراحَ ابتسامةٍ دفينة، قبل أن يَرُدَّ فَمُه بفنية عالية:
- «إن كانت هذه المسكينة لا تَذكرني، فأنا مازلْتُ أذكرها»..
ومناسبة القصة؟!
إنها قطعة فنية، تُحفة هي تَختزل ذاكرة خفية، وتَقطع بنا مسافة عُمر.. وكُلّ ما يمكن أن يَكون قد طرأ مِن تغيير هو فقط زمنٌ ومكانٌ سَقَطَا سَهواً..
فلمن تكون التحفة الفنية؟!
دَعْنِي يا صديقي أُعَرِّفك على الرسام والمصور الإيطالي يوجينيو زامبيجي Eugenio Zampighi، ولا غير يوجينيو زامبيجي في وسعه أن يَقصّ قطعة كهذه بإحساس، كما لا غير مقصّ الجودة الفنية العملاق في وسعه أن يبرز هذا الجانب مِن الجمال الإنساني الخَلاّق.
بمهارة لا تنقصها الخبرة يربط يوجينيو زامبيجي خيوطَ التقاسم ليحلّ عقدةَ لسان التراحم الغائب عن زمننا، من خلال نموذج زوجين عجوزين، سبقتهما زحفاً إلى ملعب الحياة تلك الشيخوخة الحالفة أن تُخْرِسَ فمَ الرغبة في الحياة..
إنه الثنائي الْمَرِح الذي أَقسم يوجينيو زامبيجي أن يَضفرَ ما تبقى من خصلات رغبته في الإقبال على الحياة، ومن ثمة وجدنا الزوج والزوجة يتقاسمان بلذةٍ خبزَ الحياة، فأغراهما بالْمِثْلِ شوكُ الحياة الذبَّاح بقدر استسلامهما للوقوع في حُبّ وردها الفوَّاح..
بَطَلا قطعة يوجينيو زامبيجي الفنية، أو لِنُسَمِّها نصَّه البصري ذاك الذي يَشهد له المتأمل بأنه مُحْكَمُ الصياغة والتنزيل هو المكتوب بلغة الأضواء اللونية، يتركان (البطلان) الانطباع بأنهما يقتطعان بِنَهَم شيئا فشيئا مِن كعكة الحياة..
لكن مَن يصدق يا صديقي أن كعكة الحياة، في لحظة البطلين الحرِجَة، لا تَعِدُ بشيء مِن السُّكَّر، مع ذلك فإنك سترى أنهما يحرصان، بإتقان، على التوسل بمطرقة التحدي والعناد والمكابَرة (في غياب الأسنان) لتفتيت قطعة السكَّر الوحيدة التي يَملكها مَن هم على شاكلتهما، إنها قطعة الصبر..
العجوز الذَّكَر نراه بِفَتيل ابتسامته المضيئة يَعبث بِيَد الزمن الأمَّارة بالبطش.. والعجوز الأنثى تُقاسمه حرارةَ دفء الأوقات بابتسامة تستحضر أزهى ما فات في شبابهما على مرّ الحياة..
ابتسامة الإنسان حتى في غياب الأسنان تجعلك تَعبر محيطات الإحباط والغربة الداخلية والتعب النفسي، والنموذج ما يؤكده في حالتهما العجوزان.
الإنسان فنان بإحساسه، وقمة الفن ابتسامةٌ لا تَكذب، ابتسامة ترسم حدود الصدق، فإذا ببلابل المحبة تشدو وإذا بعنادل المودة تَفكّ شفرة الخواء الذي جعل من المستحيل أن تَمدّ حبل البقاء..
هكذا ابتسامة البطلين العجوزين تُزهِر بين كثبان رمال التجاعيد الضاربة بعنفوان الشباب ضربةَ تسونامي، هكذا يضيء قمر الألفة بعد أن تَسقط شمس الصِّبا، وهكذا يتعالى صوت الرحمة كالسنابل الممتلئة تلك الواعدة بحصاد ينحني له أفُق نظر البسطاء الفلاحين..
عن هؤلاء المتعَبين، يَحكي لك بلسان الصورة صاحبنا يوجينيو زامبيجي، يحكي لك عن عباءة الحياة عند الكادحين، إنها عباءة الحياة الصعبة، إنها العباءة التي يثقبها الوقت وترقعها زفرات الصبر في أفواه عطشى لا تَنبس بكلمة، لكن العيون الجافة تَبوح وتَبوح..
الترقب والحنين يَمتثلان بإذعان لِبَطَلَيْ يوجينيو زامبيجي مع أنهما عجوزان، والابتسامة عين ثالثة بها هما يُبصران، يبصران ما لا تراه عين وما لا تحدس به بصيرة..
ابتسامة بطلَيْ يوجينيو زامبيجي تقول لتجاعيد وجهيهما: نامي، نامي، ولْأَطِرْ على بساط أحلامي في غَدٍ آخَر لا تنطفئ فيه شموع المحبة كما لا تنفد كؤوس اللذة الخفية تلك المستقاة من الإيمان بحُبّ الحياة..
صَدِّقْ يا صديقي أن الابتسامة هي الأخرى بَطَلٌ في نص الصورة، فكأنها تجتهد في أن تُعيد لماضي الْمُحَيَّا عصاه السحرية الضاربة للجسد موعدا مع الحظ بعد تمام انطفائه، وبالمثل تُعيد له ألقه وبهاءه..
أولَستُ أقول لك إنها الابتسامة التي تردم فجوات يحفرها الزمن بحجم أخاديد التجاعيد؟! تَيَقَّنْ أنها الابتسامة، الابتسامة نفسها تلك تَحفر من جديد «حفرة الزين» التي تقول لطالب الحياة: هل مِن مزيد؟!
هذه العينة من الأحياء، البسطاء، أول ما يمدّ لك جسرا إليها هو حصتها من حلاوة الروح ونصيبها من النقاء.. إنه النقاء الشاخص في مساحة الضوء التي يُغطيها الجسد على امتداد المشهَد البصري الذي تتمركز فيه الشخصيتان المشتعلتان رغم ذبول حقول العمر..
فهلاّ نظرنا إلى وضعية الجسد الصارخة فيه الروح؟!
إن تبئير العين المؤطِّرة لحدود المشهَد يقول إن يوجينيو زامبيجي يعطي لبطليه الحق في صدارة المركز، وبهذا فإن المبدع يبصم مؤكدا أنه تَوَّجَ بطليه ورفَعَهما على عرش الاعتراف بوجودهما رغم إحساسهما بالانحدار بعد أن اختار لهما المجتمع ركناً في الهامش..
أوليس يوجينيو زامبيجي حكيما بفلسفته «الضوء لونية» وهو يعيد الاعتبار لصرح الأمس المنهار؟!
أوليس هو الفنان يُعيد كتابة مسار إنسان نال منه سَوط الجفاء الراكض ركض ثور هائج؟!
أوليس هو إنسان يحترم الإنسان ويُثَمِّن النوع الإنساني ويُمَجِّد الذات الإنسانية بعيدا عن تصفيات الحسابات العمرية؟!
فلننظرْ الآن إلى الوضع الجسدي الماثل في مشهد العجوزين:
- إنها فلسفة الفنان الموحية بالعجز عند الإنسان متجليا في غياب الحركة.
- إن وضعية الجلوس تُضمِر الدرجة الصفر للحركة.
- إن غياب القدرة على الحركة لا ينفي الرغبة في مجاراة ساعة الزمن.
- إنه الجسد المتعَب يُعيد تصور سيناريو آخَر يُشَجِّع على التعلق بمظلة الحياة مهما حاولَت التحليق بعيدا.
- إنها نار الشيخوخة الفارّ منها جمر الاعتراف بسطوتها وجبروتها في ظِلّ نِداء الروح المصرِّحة بألاَّ تَروح..
فماذا عن لغة الملابس؟!
تَحدثنا كثيرا عن يوجينيو زامبيجي المفكِّر بإحساسه، ولْنَتحدثْ الآن عن شخصيات مَشهَدِه البصري:
- إن بَطَلَيْ عرضه البصري أبسط من ألا تَخْجَلَ منهما البساطة.
- شعبية أزيائهما تُحيل على العالم القروي المنكوب بفقره وهزاله البنيوي.
- أزياء هي تُوحي بغياب كل ما يشجع على الحياة بثراء، لكن في المقابل تتكلم مُؤَثِّثات الروح معلنة فائضَ السخاء.
- المنديل الجريح ذاك الذي دَأَبَ على أن يُلملم دموعَ العين النابع منها الألم (عند الأنثى العجوز) ها هو ينتشله يوجينيو زامبيجي من تحت سرير الذاكرة ليُمطرنا بلقطات هادرة بالهموم الطاعنة في قلوب كبار السنّ، فلا تخفِّف من وطأتها سوى لمسة منديل حالم بالانتصار على ركلات الزمن المزدرية لأجساد أكل عليها الدهر وشرب..
- بهذه التشكيلة من الملابس الرَّثَّة يُصور لنا يوجينيو زامبيجي أبطال الحياة المثالية أولئك الذين لا يسمحون للشقاء بأن يسرق منهم لحظات السعادة والصفاء.
الحس الشاعري الذكي للمبدع الفنان، رؤيته التضامنية الصامدة في وجه من يَرقد البؤس على أسِرَّتهم، المسحة الواقعية الخيالية، استحضار سؤال الهوية، اللعب على حبل المشاعر، الانتصار لذاكرة الأشقياء.. كل هذا يُعيد تَرتيبَه بأريحية يوجينيو زامبيجي في مشاهد صادمة بثورتها على جبروت الزمن المهمِّش للإنسان..
يوجينيو زامبيجي فنان يَغرف من قِدر الواقع المتمادية في الغَليان، يَلتقط الأنفاس ليَرسم بإحساس، إنه الإحساس الذي يَغيب عن بعض الناس أنه يُصْقَل لا يُنْقَل..
كأن يوجينيو زامبيجي يُسِرّ إليك بأن كل موهبة تولَد معك تنتظر منك يا صديقي أن تَصقلها بخبرة الملهَمين العارفين، وشتان بين الصقل والنقل، فكيف بالله عليهم أن ينقلوا في غياب الموهبة وهي هِبة؟!
إنه الغياب الذي لا يَعد بشيء في ظِلّ عقم الإحساس، فكيف ينحدر من ثمة مَن يدَّعي غير هذا؟!
مِن تقنية يوجينيو زامبيجي التصويرية وتلقفه لأحاسيس الآخرين هو الذي لا يشتغل إلا بإحساس، ستَتعلم الدرسَ:
- لكَ أن تسترق النظر إلى طريقته أنتَ الحالف أن تنقل منه رعشة عدسته بين يدين خبيرتين.
- لكَ أن تَنقل منه وقفة فرشاته وأقلامه وتَمَدُّدَ ورقته وانبطاحَها وانتصابَ أضوائه وظلاله وألوانه في طور استعدادها لصباغة عالم الفكرة.
- لك أن تَنقل فكرته.
- لكنك يقينا لن تُفلِح في أن تجعل أصابعك تتحرك لترقص لك رقصة أصابعه المنتشية بقدرتها على الإيقاع بتفاحة حُلمه المشتهاة في شرك الغواية ذاك الذي يطيب لمتلقيه أن يشرب نخبه حد أن يَسكرَ لذة بنصه البصري..
عبقرية يوجينيو زامبيجي تتجلى في التجريب لا في تخريب ما جربه الآخرون، ويقَظة أدواته كامنة في لغة التأسيس لا في خطاب التكريس..
إحساس يوجينيو زامبيجي التواق إلى ترجمة لغة المشاعر يحاصرك من حيث لا تدري، ومن ثمة يُملي عليك شروط لملمته في قالبك الفني وأنتَ تقطف شيئا من عِنَب هؤلاء البسطاء الفقراء، لكن لا تَنْسَ أنهم أثرياء، أثرياء بحبهم للحياة وثورتهم على الظروف التي تَطمس الرؤية بالبصر لولا عين القلب التي لا تنام..
- قُلْ لهم يا إحساسَه: ماذا تَعرفون عن العذاب الذي يُرَبِّي الإحساس ويعتصر الأنفاس الحارقة؟!
- قُل لهم يا إحساسَه: أما آنَ لكم أن تتذوقوا شيئا من الألم الذي تنبت معه أذرع جديدة تَدفع الأصابع المكافحة دفعا إلى المقدمة؟!
- قل لهم يا إحساسه: ماذا أخذ المبدع الفنان من دنياكم يا من تحلبون الجاه والأفواه، بينما هو المسكين لم يحلب غير إحساسه؟!
كثير عليك مشطُ الخبرة يا من يَسقط شَعرك في غزوات المناصب والماء والدماء، بينما غزوة المبدع الوحيدة مع الزمن الطاحن والناطح ذاك الذي يقتل فيك كل رغبة..
لكن لنقل إن للزمن الفضل في أن يشعل في يوجينيو زامبيجي المزيد من نار الإحساس تلك التي لا تخمد لها شظية، مادام المقام مقام الفقراء المعذَّبين..
عن هذا المعذَّب المسكين وسِواه ممن يلفحهم جمر نار جهنم على الأرض، ها هو يَكتب لنا مصوِّرا يوجينيو زامبيجي، إنه يُصور بعُدَّة حاملي الهَمّ الذين يودون أن يقاسموا بعضهم أحلى الأوقات مهما كفَرَتْ بذلك الحياة..
عالَم يوجينيو زامبيجي يُعَمِّره البطل الواقعي، إنه البطل الذي لا تكذب مرآة إحساسنا به، هو البطل الذي يتجسد في صورة تَوائِم يجمعها دفء المشاعر ذلك الدفء الذي تستكثره عليهم الحياة القاسية..
مِن نقطة الشيخوخة الواقعية إلى نقطة الشيخوخة الرمزية يَمضي سائراً يوجينيو زامبيجي. وما الشيخوخة المصرَّح بها في مشهد العجوزين سِوى العجز، إنها عملة العجز التي زهد فيها الكُلّ مع أنها تخبئ من قوة الإرادة وإشراق العيون والابتسامة الحبلى بالوعود والأحلام والآمال ما لا يَصبو إليه اللاحق من الأجيال..
المسألة يا صديقي مسألة إحساس، فانظر، اُنظرْ إلى إحساس بطل اللوحة العجوز بأنثاه وإحساسها به!
إنه الإحساس الذي يَقول ويقول.. إحساس يتمدد من ألِف النية إلى ياء التضحية، لكنها التضحية البَنَّاءة في زمن لن تَجِد فيه من يضحي لأجلك، فالكل مستعد ليضحي بك..
يوجينيو زامبيجي في مشهَده مع العجوزين يُعيد شرح فلسفة الزمن في صراعه مع الجسد الراكع: حين تَعبرُ الألمَ جِسرا فجِسرا، وتقف عند الحزن محطةً فمحطة، صَدِّق يا صديقي أنك عايشْتَ ليل التجربة الصابّ فناجينه بمرارة لا تُقاس بنظام الجرعات..
أَقْبِلْ، أَقْبِلْ على طَبَق الحياة، فمازال في الصدر مُتَّسَع لابتسامة ورغبة شقية لا تعترف بقانون الزمن ولا بعقيدة الظروف.. أَقْبِلْ، أَقْبِلْ، أنا وأنتَ معا، يدا في يَد، كَفّان تُصَفِّقَان، معا أنا وأنتَ سنَقوى على أن نقطع بحرَ الحياة بأقلّ الخسائر..
copy short url   نسخ
24/06/2019
4715