+ A
A -
بعضُ المغامرات قد لا نُرَتِّب مطلقا لنَخوضها في حياتنا إلا كما يَخوضها الجنود الْعُزَّل في غير ميادين القتال، وإن كانت الحياة في حد ذاتها ميدانَ قِتالٍ وساحة حربٍ تُدربنا بالإكراه على فنون القسوة، تُمَرِّننا بمنتهى القسوة اللادموية وحتى الدموية إذا اقتضى الأمر..
فماذا لو رَتَّب لك قدرك موعدا مع المجهول في ضوء طبول العزلة تلك التي تَنْقَضُّ عليك انقضاضَ الضَّواري التي لا ينقصها غير حمرة لحمك لتَعيث فسادا في ملعب خُطاك وتُسجل أهدافا تُذْكَر في مرمى قدميك الهاربتين منك؟!
قد لا تحتاج يا صديقي إلى رحلة اللاعودة لتَستشعر وقع مخالب العزلة وهي تَنغرز في قلبك لتَأكل قطعةً منه.. لكن لِنَقُلْ إنها رحلة الغَرق في اللاَّماء، ومتى؟! قبل أن يَفيض البحر وحتى قبل أن تدمع السماء..
تلك هي ببساطةٍ العزلةُ، ذلك الإحساس الذي قد يتولد لديك مِن فرط شعورك بالغربة، الغربة الآمِرة بشَقّ الحجر، بِغَضّ النظر عن «أين؟» و«متى؟» و«كيف؟»..
أولم أقل لك إنها الغربة! إنها الغربة التي تنهشك داخليا، فإذا بها تصنع بك ما يُنتظَر مِن الذئب أن يصنعه في غير حالةِ «دَم كَذِب»..
ولأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، كما نَصَّتْ على ذلك سوسيولوجيا العلاّمة العربي عبد الرحمان بن خلدون، فإنه لا مجال لتقبُّل وجود الإنسان خارج نطاق حيز الآخَرين..
عن هذه العزلة التي تَعصر القلب المسكين، عن هذه العزلة التي تَمْتَصُّ رحيقَ زهرةِ إحساسك بالحياة، لتُنْتِجَ المرارةَ لا العسل، ها هو يُحَدِّثك البَطَل..
إنه توم هانكس Tom Hanks، توم هانكس هو رَجُل المغامرة العنيد واللاعب الوحيد في الشريط السينمائي «Cast away»، رَجُل ثروتُه هو تقدر بمئات ملايين الدولارات، وشُهرتُه صناعة غطَّتْ مسافة سنوات وسنوات..
حين نَفهم أن توم هانكس ممثل من العيار الثقيل، من الضروري أن نستوعب ماذا يمكن لشريط سينمائي كهذا أن يحقق مِن إيرادات، لاسيما وأن هذا النوع من المغامَرات لا يمكنه إلا أن يَستأثر باهتمام المتلقي..
ولعل هذا ما ضمن للفيلم أن يحقق من وراء المشاهَدات السينمائية مئات ملايين الدولارات، في أميركا وفرنسا تحديدا، ومع أن الشريط الذي أخرجه روبرت زيميكيس Robert Zemeckis يعود تاريخ إنتاجه إلى سنة 2000، فإنه مازال يَترك للأجيال اللاحقة متعةَ المشاهَدة نفسها وكأنه مع كل جيل يُجَدِّدُ جِلْدَه ليُبهِر العيون ويُسْكِرَ الأنفاس تلك التي تتواطأ مع مناطق الإحساس ضد رغبتك في هَجر الشريط قبل الدقيقة الأخيرة من زمن النهاية..
فماذا يَروي لكَ فيلم المغامرة هذا؟!
يَحكي لنا الفيلم بلسان المغامَرة حكايةَ تشاك نولاند Chuck Noland الموظف في شركة فيديكيس Fedex، وهي شركة شحن تُجبر تشاك نولاند على تأجيل موعده العاطفي مع حبيبة عمره إلى ما بعد تمام رحلته الجوية الأخيرة..
يَطير تشاك نولاند، فإذا بِحُلم العودة يطير هو الآخَر، لأن الطائرة تَستسلم مُنْحَنية لتَدَخُّل عاصفي، وإذا بها تسقط في المحيط، ولا أحد يَنجو سوى تشاك نولاند الذي يحاول جاهدا أن يتمسك بطوق نجاة إلى أن يتلقفه شاطئ جزيرة..
مَن يُصَدِّق أن الجزيرة ستكون غير آهلة بإنسي واحد يُذْكَر، بل أكثر مِن هذا فإن تشاك نولاند لا يَجد فيها شيئا يصلح لاتخاذه وسيلة تُشجعه على تحمُّل ظرف معيش أكثر ما يَغيب عنه هو الحياة، وأكثر ما لا يليق به هو العيش..
إنها العزلة الذَّبَّاحة! فكيف لك أن تتصرف والحال هذه؟!
حين يَحكم عليك الزمن بسجن العزلة، عليك يا صديقي أن تفكر في أن تَخلق عالمك الآخَر الذي لن يخرج عن حياة صغيرة، حتى لا تَستدرجك إكراهات العزلة، وواقعها الْمُرّ، إلى حفرة الموت، حفرة الموت تلك هي لا تَستثني الْمُقَيَّدَ السَّجِينَ ولا الطَّلِيقَ الْحُرّ..
إنها العزلة، لا تختلف هي كثيرا عن الإبادة، أو لِنَقُل بتعبير آخَر إنها لغة الموت البطيء الأخفّ ترَكيزا مِن لغة الموت دفعة واحدة..
لكن مَن ذا الذي في وسعه أن يُجابِهَ الموت؟!
مَن ذا الذي يستطيع قبالةَ قبضة الموت أن نَسمع له شيئا مِن الصوت؟!
إنه رَجُل المصاعِب الذي يَنأى به الحظ الغاضِب إلى أبعد نُقطة في خريطة التموقع، إنه بَطَل المغامَرة الذي يَستميت بمكابَرة لِيَنْجُوَ بعُنقه بعيدا عن حبل المشنقة التي نَصبها له قَدَرُه..
في جزيرة لا تختلف عن فلاة، ما عساه المرء يَصنع بنفسه وليس قُدَّامَه مِن وسائل غير غُصن وحَصاة، ليس أمامه إلا أن يَشرب مقلبَ الغربة الساقطة كاللعنة، أو فَلْيَشرب البحر..
أقُلنا البحر؟!
نعم، قُلنا..
لكن ألَيْسَ مِن المبالغة عَبَثاً أن نُفَصِّلَ البحرَ على مقاس ألفَم؟!
بَلى، وإنها لَقِمَّة العبث أن نُخَمِّنَ في العكس كليا، فلا فَم المغامِر الصغير يَستوعب البحرَ في جرعتين، ولا البحر بِجَلال سعته يَجدُ مكانا لشهقةِ روحٍ..
تشاك نولاند أَثْبَتَ بإصراره على البقاء أنه يُحِبُّ الحياةَ حُبَّ عِبادةٍ، لذلك وَجَد نَفْسَه يَتمسك بقُوة بمعطف الحياة البارد، حتى بَعْدَ أن غادرَت الحياة..
قَدَمَا الصُّمود الحافيتان عند صاحبنا تشاك نولاند ها هما بِصَدد ممارسة فَنّ الإغراء لحذاء الحياة الهارب بعيدا عن جزيرة مَنسية لا يمكن للروح الساقطة فيها مِن عَلٍ إلا أن يُصَيِّرَها الزمن الرتيبُ منفية..
لكن ماذا عن درس التحدي والصمود؟!
ماذا عن طقوس تقديس الحياة ولو أنها لا تَعِد بالحياة إلا بعد حين؟!
ماذا عن قارب الخَواء المسكين الذي يَقطع جسرَ القلب جيئة وذهابا، ولا يَجِد أمام الظرف القاهر إلا أن يَستهين به ولا يَلين؟!
إن هذا عينه ما ستُعَلِّمك إياه تجربة تشاك نولاند، فهو لا يعزف لك على أوتار اليأس عند أول مواجَهة له مع قانون الحياة الذي لا تُرَدُّ لمطرقته ضربة، لكنه يُؤَهِّلُنا نفسيا لنَبحث عن نافذةِ ضوءٍ يَمتصّ شيئا مِن ظلمة مأزِقنا ذاك الذي نَتَخَنْدَق داخل صندوقه المعَتَّم كفأرٍ قَدَره معلقا برقصة أصابعِ شرِّيرَةٍ تَعُدُّ قَتْلاها..
بين وِشاح الْمَلاك وجُبَّة الشيطان يمكنك أن تنتقي لحياتك الفستان، فستانها يا صديقي فصِّلْه على مهل بِحَرير صمودك وتحدِّيك وعنادك وجبروت نفْسِك الحالفة ألا ترَكع للاستسلام..
لا تَتركْ حياتك تَصنعك كما شاءَتْ، إنما اصْنَعْ أنتَ حياتَك، وأول خُطَّة لتَكونَ أنت أنتَ ما تُريد أن تَكونَه هي أن تَبحث لنفسك عن حَيِّز روحي يُعيدك إلى دائرة الامتلاء..
أليس مِن الحكمة أن أحدثك هنا عن الأصدقاء؟!
بلى، ولهذا كان تشاك نولاند ذكيا إلى أبعد مدى وهو يستعين بما لفظَه البحر من شحنة الطائرة المتداعية، ومن ثمة اكتشف متعة إشعال النار بطرق بدائية ليستشعر شيئا من الدفء، قبل أن يلجأ إلى كرة طائرة ليبصمها بظلال كفه المدماة وهو يَرقص رقصة الموت بعد أن خَبَرَ الوجعَ حدّ أن اتخذَه صلاة..
لِنَقُلْ إنه أوان ولادة الصديق «ويلسون Wilson» في هذه اللحظات، إنها اللحظات العصيبة التي تمدَّدت وامتدت لسنوات.. وهذا إلىَقِظ تشاك نولاند، في ذروة جنون زمنه، يجتهد ويثابر ويثور، ليتخذ القرار الصحيح الذي يستعصي على أيامه معه أن تَسترسل في ألفُجور..
إنها الكُرة التي صَيَّرَها البطل المغامِر مجسِّدَةً لصديقٍ مِن خيال، وإنه وجهه ذاك الذي تُحاكيه اليد المدماة تلك التي لَطَّخَتْ وجهَ الكُرة التي لفظها البحر هي الأخرى إن لم تَكن هي قد زحفَتْ زحفا لتُعادِل مصباحَ الأمل الذي أشعله القَدَر تخفيفا من قسوته على تشاك نولاند..
مُرّ هو الانقلاب على نظام الحياة، لذلك فَكَّرَ تشاك نولاند في أن يَستثمر كل ما جاد به البحرُ مِن مقذوفات تَعود إلى الطائرة، وأن يَخلق لحياته المؤجَّلة نظاما جديدا تَحكمه الجاذبية..
هكذا نجح تشاك نولاند في أن يَملأ الفراغ الكبير الذي هَيَّأَتْه له العزلةُ، أصبح ويلسون (الكُرة) الصديق الذي يتحدث إليه نولاند مقاسَمَةً وبوحا وشكوى.. أصبح ويلسون مثل البحر تقول له كل شيء، يسمعك وأنت تناجيه، ولا يفشي لك سِرّاً صغيرا لحياة كبيرة بمتاعبها..
المحاولة الأخيرة لطلب اللجوء إلى الحياة الأخرى، التي يَعرفها الآخرون، ها هو تشاك نولاند يَستميت بجنون وهو يَشُدّ الخطى إليها بعد أن استعان بمتلاشيات الطائرة ليَصنع طوقا يتخذه فلكا يقطع به بحر الظلام بعد أن تسابَقَتْ السنوات تباعا ومَل َّتشاك نولاند مِن أن يَقتات على حبّات جوز الهند الساكن الوحيد في الجزيرة..
ماذا سيَناله مِن قَضْم جوز الهند سِوى وجع الأسنان؟!
أما ما حاول أن يَلتقطه مِن أسماك لا تُغني من جوع، فإنه قد استَفَزَّه بما يكفي للتعود على الشعور بالغثيان وهو يبتلعها نيئة..
فَلْتَدُقّ ساعة رحلة العودة، أو اللاعودة، وهذا صاحِبُنا تشاك نولاند يُبْحِر مِن هنالك حيث ضربَتْ له الحياة موعدا أخيرا مع الموت أو اللاموت..
إنها محطة الانتظار الأخيرة التي يَجِد فيها نولاند نفسه في عرض البحر مُنْهَكاً أشَدّ ما يكون الإنهاك، ولْنَتَصَوَّرْ في هذه اللحظة كيف أنه لم يَقْوَ على شيء، خانَتْه حتى القدرة على البوح لصديقه الماثل قُبَالَتَه ويلسون..
لكن مرة أخرى يمتحن القَدَرُ قوة تحمُّل تشاك نولاند، بإذا بالكرة تتدحرج ليستفيق نولاند من إحدى نوبات غيبوبته وقد صعقه سقوط ويلسون الْمُدَوِّي روحيا بعيدا عنه، هام نيلسون على وجهه، ولَكَمْ كان صراخ نولاند موجِعا وحارقا كالنار بعد أن تماثلت له لحظات الفراق جاثمة..
برحيل ويلسون تَسقط آخِر ورقة من شجرة الحياة.. فراق الأحِبَّة شوكة سامَّة تَخِزُ القلبَ وتَذْبَح أورِدَتَه، فكيف للمُفْلِس بعد نَفاد عُملة الحياة أن يَقوى على الحياة..
وككل محنة تدرّ الملحَ في عين القلب، لابد أن تَكون واثقا بلحظة الخلاص مهما سَوَّطَتْكَ عصا الزمن، ولهذا بَلَّلَت السماءُ وجه نولاند بماء الرحمة، فما كان له إلا أن يَرفع يدَه شاكرا للسماء بعد أن بَشَّرَتْهُ بقدوم سفينة شَحنٍ لم يَفُتْها أن تَلْتَقِطَ صُورتَه وهو يُصارع الموت لِتَعود به إلى مرفإ الحياة..
الإصرار عنوان الانتصار، والصمود لا يُؤمن بالحدود، والإرادة طريقك إلى السيادة، والتحدي والعناد فُرْصَتُك الأخيرة لِتُعْلِنَ العصيان على الاستعباد..
صحيح أن الرياح تَجْرِي بما لا تَشتهي السُّفُن، لكِنْ دَعْ خسائركَ الثانوية جانبا، وانْظُرْ ما سَتَصْنَع ببطاقة جديدة تَعِدُكَ بِعَرْضِ حياةٍ جديد..
«Cast away» شريط سينمائي يَستحق الفرجة والمتابعَة، وهو مِن بين الأشرطة القليلة (نُذَكِّر هنا بشريط «127 ساعة») التي تُناقِش سينمائيا فكرةَ عزلة الإنسان وتُرَبِّينا على أخلاق مطاردة الحياة واقتناص ألفُرصة لنَيْلِ شرفِ شيءٍ مِن الخلود في ذاكرة المغامَرة..
تَعَلَّم سياسةَ الحياة، وكُنْ مِن الأقوياء في الْمُبارَزَة بِلِسان التَّحَدِّي.
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
15/06/2019
3331