+ A
A -
بقلم :
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
بين الماء والدِّماء ما بين مرآةٍ وظِلال، ما بين شلالِ قصيدةٍ وذيلِ أطلال.. إنه الحنين إلى زمن الانعتاق مِن فرط الوقوف على قَدَمٍ وساق..
نهر الأشواق في غابة الروح يَتمدد، وأوراق الحُبّ تتشتت بعيداً عن مُدُن الوئام، وورود الحرية تَتُوق إلى مَن يَنثرها حول الحيارى مِن فلذات كَبِد هذا الإنسان، هذا الطاعن في النسيان..
عن إنسانٍ تمادى، تمادى في الاستسلام، قُدَّامَ غياب أسباب نجاح عملية السلام، ها هو يَحكي لنا في لوحة شِعرية حالِمة صاحِبُنا إيليا أبوماضي..
«عجباً! والحرب باب للردى
وطريق لدمار وعفاء
كيف يهواها بنو الناس فهل
كرهوا في هذه الدنيا البقاء؟» (إيليا أبوماضي).
مِن أين لك يا صديقي أن تَطلب الدنيا وأَعَزّ ما فيها يَغيب مِن سلام وأُخُوَّة؟!
مِن أين لك أن تَطيب لك شجرةُ وَردِ الحياة وهذه أشواكها تَنْغَرِز في جسدك الغَضّ انْغِراسَ مُبيدٍ في قطعةٍ مِن الأرض؟!
إنه أوانُ الحرب، وها هي ذي ساعة الموت تَحين، والضحية؟! لا آخَر غير هذا المسكين، هذا المسكين الإنسان، لا آخَر غير هذا الحالف ألا يَتأخر عن صلاة التمرد والعصيان..
بين الضحية والجاني يَنتصر الإنسان ويَسقط قرينُه، لكن هيهاتَ لهذا الإنسان الذي ما كان له أن يَنجح إلا بالنية أن تُرَحِّب به الأغلبية..
الكُلّ تَواطَأَ مع رشّاش الموت ضِدّ الرغبة في البقاء، فإذا زالَت المحبةُ، وزال الإخاء، ما عاد لنا أن نتحدث عن أسباب تُذكر للترحيب بإرادة البقاء..
إنه مقام العطش، وبين العطشان والماء غير ما بين زنبقةٍ وحِذاء..
«جاءني بالماء أروي ظمئي
صاحب لي مِن صحابي الأوفياء
يا صديقي جَنِّب الماء فمي
عطش الأرواح لا يروى بماء» (إيليا أبوماضي).
ما أقساه ظمأ الروح، وما أقصاه الباحث عن الحَبّ والحُبّ للروح!
ظمأ الروح شتان بينه وبين ظمإٍ يرقص فيه الفَمُ، يَرقص انتشاء بموعد مع الماء..
ظمأ الروح رسالة حزينة تنقلها ريح شتاء العمر وصيفِه باثَّةً فيها ما شاء للإنسان قَدَرُه مِن أوجاع دفينة، أوجاع يَنكأ جروحَها الغياب، فماذا عندما تَحكم عدالةُ السماء بتأجيل الحساب؟!
إنها رحى القلق تلك التي أَقْسَمَتْ أن تَحرق زرعَ القلب وتدرّ رمادَه في العيون التي يُصَيِّرُها الخوفُ جافة، جافة أكثر مما ينبغي:
«نتقي في يومنا شَرَّ غدٍ
وإذا الصبح انطوى خِفنا المساء» (إيليا أبوماضي).
القلقُ تَجعله اللحظة المأساوية عقيدة، عقيدة الإنسان، والخوف تُصَيِّرُه المآزِق النفسية والاجتماعية مظلَّة، مظلة مثقوبة لا تَعِد بِحَجْب عورة الأحزان..
فأيّ جدوى ثمة من انتظار غَدٍ لا يتثاءب لشمسه شروقُ أمان؟!
وأيّ غاية ثَمَّ مِن تَرَقُّبِ مساءٍ لا تُصَفِّقُ لعُروض قَمَرِه نُجوم تَبعث على الطمأنينة؟!
شَتَّانَ بين التعزية وبين الراحة النفسية، وكِلاهما يَرسم بفرشاة الألَم مشهَد الغياب الموجِع والْمُفْجِع لِسَكَن الروح..
«زحزحت عن صدرها الغيم السماء
وأطلّ النور مِن كهف الشتاء
فالروابي حلل مِن سندس
والسواقي ثرثرات وغناء
رجع الصيف ابتساما وشذى
فمتى يَرجع للدنيا الصفاء؟» (إيليا أبوماضي).
حُلم آخَر يَزحف بعيداً جريحاً كسيحاً لا يَلوي على قِبلة..
حُلم آخَر يَسقط مِن حقيبة اشتهاءات الإنسانية في ضَوء انبلاجات لا تَعِدُ بِضَوء..
حُلم آخَر تُؤَجِّلُه كوابيس تَحلب سحابَ الفرح، وغيمَ الرضى، وتَحرق ورقةَ الحياة تلك التي ما عادت رابحة..
عن أيّ ربح ستحدثني يا صديقي في زمن الخسارة؟!
وبأيّ قِطَع غير نقدية سَتُمَنِّي نَفْسَكَ اليتيمة لشراء الحرية؟!
تَقَطَّعَت أوتار قيثارة الأمس تِلك التي كنتَ تَعزف عليها لحنَ التضحية، ومِن ثم باتَ أغلى ما تَطلبه هو قُرْصُ الحرية..
ضوء قُرْصِ الحرية أَنَّى له أن يَبقى ويَتمدد مع دِين الوحوش أولئك الذين لا يعترفون بغير الدوران في اتجاه عقارِب ساعة الزمن البِدائي.. الغَلَبة للأقوى، ولْيَبْكِ على نَفْسِه حَطَّاب العود الضعيف..
«قد ترقى الخلق لكن لم تزل
شرعة الغابة شرع الأقوياء
حرم القتل ولكن عندهم
أهون الأشياء قتل الضعفاء
لا تقل لي هكذا الله قضى
أنت لا تَعرف أسرارَ القضاء» (إيليا أبوماضي).
ما كان مِن حكمةِ الخالق جلّ شأنه وعدالتِه أن يَقتُل البعضُ بعضَه، وما كان مِن عدل السماء أن تَسودَ مَشاهِد تؤذن بالفَناء..
الحرب طاحونة، طاحونة هي لا تَعزل روحاً ولا قلباً، هي طاحونة لا تختلف عن آلة منتجة للرعب ومُوَلِّدَة للذعر..
كثيراً ما نَرغب في أن نَنام، لكنْ مِن أين للوسادة غير الناعمة أن تُرَبِّيَ فينا الأحلام؟!
«زالت الحرب وولت إنما
ليس للذعر من الحرب انقضاء
إن صحونا فأحاديث الوغى
في الحمى الآهل والأرض العراء
وإذا نمنا تراءت في الكرى
صورة الهول وأشباح الفناء» (إيليا أبوماضي).
ولِمَ كل هذه الحروب؟!
هل هذا أقصى ما رَتَّبَه العِلمُ للإنسان المعذَّب؟!
ومتى كان للإنسان أن يُعَذِّبَ بكوابيسه ويُعَذَّبَ بأحلامه؟!
أهِيَ هذه ثروةُ الروح؟!
أم تِلْكَ هي ثورةُ العقل؟!
عَجَباً لعقلٍ أَمَّارٍ بتعطيلِ سياسة العقل، وتعسا لحضارة يَخونُها فنّ التحضر مِن باب الحرص على البقاء لا تكريس الموت!
هكذا يَصِحُّ لنا أن نَنتفض انتفاضةَ الشاعر بصوتِ فَمِه الثائر، هكذا يَصِحُّ لنا أن نَرُدَّ الاعتبار لِصَرح الكرامة الإنسانية الْمُنهار:
«إن يَكن علم الورى يشقيهم
يا إلهي ردّ للناس الغباء
وليجئ طوفان نوح قبلما
تغرق الأرض بطوفان الدماء» (إيليا أبوماضي).
أول طوفان يَذكره التاريخ حَصدَ القلبَ، القلب الآمِر بالسوء، والحَبَّ.. وآخِر طوفان ها هو ذا يتجلى ماثلا قُبالَتَنا حاصدا القلبَ والحُبَّ، لكن كيف؟! لِنَقُلْ فَحسب إن طوفان اليوم يَمضي شاخصا بالعَرض البطيء..
أقصى ما تَتوق إليه اشتهاءات الروح الظمأى هو وقفة طويلة عند محطة الصفاء الأخيرة قبل تمام اكتمال موعِد الآخِرة..
«فمتى يَرجع للدنيا الصفاء
فأرى الفردوس في كل حمى
وأرى الناس جميعا سعداء» (إيليا أبوماضي).
أن تَسعد يا صديقي في عالَم اليوم معناه طلب المستحيل.. أن تَسعد اليوم معناه أن تقرر أن تَخوض رحلة إلى المجهول.. أن تَسعد اليوم معناه المغامرة، معناه المخاطَرة..
فكم يَلزمكَ مِن دُعاء لتُحافظ على أسباب البقاء؟!
وكم يلزمكَ مِن تَضحية قبل أن تَرْوِيَ روحكَ الظمأى وهي تنكسر لرغباتها في غير الماء؟!
ألاَ احْكِ لنا يا صاح، ألاَ احْكِ لنا حكايةَ ضفيرةِ الصمت على بطشِ زمنٍ مَنَّاعٍ للماءِ جَمَّاعٍ للدماءِ بِطُول عطش الأرواح.
copy short url   نسخ
01/06/2019
3787