+ A
A -
يتعمق ويزداد شعور أوروبا بأنها في غير الطريق الصواب، وأن مستقبلها ليس واعداً ومشرقاً كما تبتغي، وأن تاريخ نهضتها الأولى الذي منه تناسلت تجارب النهضة في العالم قد أصبح مجرد تاريخ، فالذين نقلوا عنها واقتبسوا منها يتجاوزونها في أسواق الاقتصاد ومعامل التقنية، وأن هناك تحديات تضاعف إحساس القارة البيضاء بأن شيخوخة خطيرة تدب في أوصالها، وأن العالم تتوزع فيه مراكز القوى والكتل الاقتصادية المؤثرة على نحو غير مسبوق، وأن أوروبا صارت تواجه بالفعل خطراً وجودياً، ولهذا نجد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل أيام يحذر من مؤامرة لتفكيك القارة البيضاء ويندد بتواطؤ القوميين ومصالح أجنبية يهدف إلى تشرذم القارة البيضاء، وأن القوميين الذين يريدون تقسيمها هم أعداؤها الأوائل.
ولم يكن الرئيس الفرنسي هو أول من أعرب عن قلقه على أوروبا، بل سبقته إلى ذلك مستشارة ألمانيا ميركل، ما يعني أن القلق على أوروبا ومستقبلها يستشعره بالفعل عقلاء القارة البيضاء.
من الواضح أن انتخابات البرلمان الأوروبي قبيل أيام حدثت في ظل حالة من الضعف والانقسام التي لم تشهدها القارة العجوز من قبل، وتتجلى أبرز صور هذا الوهن الأوروبي في تباطؤ الأداء الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة فضلا عن الخلافات التصادمية حيال قضايا الهجرة واللاجئين، وتواصل تداعيات أزمة البريكست واضطراب الأوضاع الداخلية في فرنسا وحالة السيولة السياسية التي تشهدها الأوضاع الداخلية في عدد من الدول الأوروبية. نسبة المشاركة بالانتخابات كانت الأعلى منذ عشرين عاماً، ما يعكس أهمية ومفصلية هذه الانتخابات إلا أن ما ورد من هذه النتائج يؤكد مخاطر فعلية تحدق بالقارة العجوز، ومنها صعود غير مسبوق لليمين الأوروبي، وتصدر حزب «التجمع الوطني» (الجبهة الوطنية سابقاً في فرنسا) اليميني المتطرف، بقيادة مارين لوبين، نتائج الانتخابات الأوروبية فرنسياً، متفوقاً بذلك على حزب «الجمهورية إلى الأمام» الذي يقوده ماكرون، يعني ان تحجيم ولفظ موجات الهجرة صار هدفاً مشتركاً لأوروبا وأميركا. ورغم أن مفتاح الحلول هو العودة إلى أوروبا الولود ديموغرافيا والاعتناء بمعدلات الإنجاب وإيجاد الحلول الاجتماعية لكل المشاكل التي أدت إلى نبذ الإنجاب والاستخفاف بالنظام الأسري والزواج الشرعي وبناء الأسرة، بعد أن صارت هذه القارة العجوز بلا أبناء، وبعد أن صارت الشيخوخة تهدد مستقبلها، وهي نفس العلة التي صارت تواجهها اليابان.
اليمين المتطرف سيعيد عقارب الساعة الأوروبية للوراء كلما علا صوته ووصل صراخه إلى الآذان الأوروبية سيعمل في اتجاه غلق أبواب الهجرة إلى أوروبا، وربما البحث عن ذرائع شتى لتهجير من هاجروا واستقروا منذ سنوات في أوروبا، فضلاً عن الاهتمام الاجتماعي اليميني بالعودة إلى معدلات الإنجاب لمؤشرات وأرقام كانت عليها، ولهذا يمكن القول إن ما تمخضت عنه الانتخابات الاوروبية الأخيرة تنذر بحالات من الأنيميا السياسية الحادة التي ستصيب الأحزاب التقليدية في مقابل علو صوت وقدر الأحزاب اليمينية، ما يعني أن أوروبا على أعتاب متغيرات عديدة، تتصدرها المتغيرات الديموغرافية وإعادة بناء الاقتصادات الاوروبية لمواجهة المنافسين الآسيويين الجدد الذين غزوا أسواق العالم، والذين انتقلت إلى بلدانهم مراكز الثقل الاقتصادي في العالم، ولهذا يمكن القول إن أوروبا تجتاز حالياً لحظات تاريخية، بعد أن أثبت اليمين الأوروبي قدرته على التحوصل أو التشرنق السياسي لعقود حتى تتاح له الفرص المواتية للعودة مجددا إلى الواجهة.
بقلم: حبشي رشدي
copy short url   نسخ
31/05/2019
1495