+ A
A -
بقلم
د.سعاد درير
كاتبة مغربية
مَن قال يا حالما بالشرب من رأس العين، أن أحلام العصافير لن تَنسفها الغِربان في رمشة عَين، وإذا بالليل يَسقط ستاره قبل منتصف الظهيرة، وإذا بيَدٍ خفية تُصَيِّرُ جواربَ الحلم الحريرية مصفاةَ كابوس؟!
هنالك، تحت سماء فرنسا، تنتشلنا يَدَا قَدَرٍ أبَتْ بطلته الصغيرة إلا أن نتجاوبَ معها ونحن نُنصت إلى حكايتها، حكايتها تَعصر القلب، وتُفَرِّق المناديلَ بالمجان.. طاحونة الدموع تَطحن، والميّتُ بدون عزاءٍ إنسان..
إنها كاميل كلوديل Camille Claudel، ولْتَكُنْ هذه الـ«كاميل كلوديل» النحاتة الفرنسية التي انتهَتْ حياتها في ردهات واحدة من المصحات النفسية نتيجة ما عانته مِن جراء علاقة غير متكافئة آلَتْ إلى التقلص تحت قبة الزواج..
لم يكن زواج كاميل كلوديل بغير النحات أوغوست رودان Auguste Rodin ذاك الذي كان يكبرها بما يتعدى سقف العشرين سنة..
علاقة كهذه، يا صديقي، لم تَكُنْ لتدوم في حالة استقرار رغم ما كان يُمَهِّد له الاختيار، ولا شك في أن ما يَزفّه الرَّجُلُ إلى المرأة مِن ورود الحُبّ وشموع العاطفة قبل أن تَلِجَ أصابعها علبتَه السوداء شيء آخر غير أكفان الموت السوداء تلك التي يُلبسها إياها قبل أوان الرحيل وكأنه يَئِدُها وَأْداً..
قصة كاميل كلوديل، رغم كُل القيل والقال الذي تمدد حولها، تُضْمِر أكثر مما تَكشف، وتَجْتَرّ أكثر مما قد يُصَوِّر لك عقلُكَ أنها مَضَغَتْه، ولا غرابة، لا غرابة أن الأمر عندما يتعلق بالنجاح والتفوق المهنيين، أو لِنَقُلْ الإبداعيين، فإن المسألة تَقول الكلمةَ الأخيرة فيها حسابات أخرى..
بعيدا عمَّن يُصَدّق ومن يُكَذِّب، فإن مِن غير العدل ولا مِن الحكمة أن تَنتهي حكاية عشق مجنونة كمثيلاتها بالإعدام حَبْساً لبطلتنا في سِجن المصحّات النفسية تِلك التي تَعِدُ بأيّ شيء إلا بالعودة إلى الحالة الطبيعية لطالِب الشفاء..
قد يكون الذوبان في محيط الحُبّ (الحُبّ الميّت بعد حين) بداية نهاية التخمين في الترتيب للقفز من فوق الجدار القصير الفاصل بين سجن الحُبّ ومؤسسة الزواج (القامعة) مِن باب الاقتناع بالشريك، وأيّ شريك؟! إنه الشريك غير الأمار بوضع العقل والقلب في قَبْوِ الجيب..
طفولةُ نهايةٍ كانت تُنذر بكل الأسى والشجن ما كانت لتغيبَ عن خط تقدير بَوصلة التغرير، لماذا؟! لأن رَجُلا على شاكلة زوج كاميل كلوديل ما كان له إلا أن يُغَرِّرَ بقلبٍ ما خبرَ أنفاقَ مدينة التجربة، قلب لن يَكون سوى قِطعةٍ تَرتعش في صدر الصغيرة كاميل كلوديل ذات الأصابع الخبيرة في صناعة الفن والجمال وإحياء بنات الخيال..
لكن عاصفة الرمال لا تشاء إلا أن تُهَرِّبَ الممكن وتُفَصِّل المحال على مقاسات ساحة القتال.. تَخفت أضواء الحُبّ التي كانت ساطعة كالثريا، وتَهيج موجة الرحيل الحالفة أن تأخذ معها كل شيء، كل شيء..
لا شيء يَبقى غير جذوة السؤال تلك التي أَقْسَمَتْ ألا تنطفئ، وإن انطفأت الأنفاسُ والروحُ:
أليس مِن الغريب أن نُصَدِّق أن أوغوست رودان زوج كاميل كلوديل لم تَكن تَنهشه الغيرة وهو يرى زوجته الشابة تتفوق عليه بموهبتها وأفكارها الحاصدة للنجاح؟!
أليس هو الحقد صانع الشر بامتياز ذاك الذي جعلَ زوج النحاتة كاميل كلوديل يخطط للجريمة النائمة قبل أن يزجّ بزوجته في سجن المرض النفسي؟!
أليس مما لا يَغيب عن الناظر بعين التأمل أن يَكون أوغوست رودان قد حاول أن يُداوي فَشَله بسرقة أعمال عشيقته (زوجته) المتفوقة عليه كاميل كلوديل، لاسيما وأنه تَعَرَّضَ مرارا للرفض بالاعتراف به في أوائل حياته الفنية كطالب في كلية الفنون؟!
ألا يَغيب عَمَّنْ يُعاين المشهَدَين الفني والزوجي للفنانة كاميل كلوديل أن يسجل كيف ارتبطت بداية ادعاء جنونها (كاميل كلوديل) بنهايتها كعشيقة وزوجة، وكأن المدعو أوغوست رودان قد زهد في صاحبته النحاتة وألقى بها في صندوق المصحة النفسية بعد أن استهلك أفكارها الإبداعية وامتص إحساسها الفني ونَحَّاها جانبا كما لو كانت ورقة منكمشة؟!
أليس من غير الباعث على الجنون أن يُقَيِّدَ أوغوست رودان طموح زوجته ويَحدّ من قدرتها على إنتاج الأفكار بسبب مضايقاته، لاسيما وأن مضايقاته لم تكن لِتَفصل بين قفص الزواج (العشق السُّلْطَوِيّ) الخانق لموهبتها وبحر التجربة الذي تتهادى فيه أمواج إحساسها بحاجتها إلى الهواء الذي لا تَحدّه سماء؟!
أليس من الجنون بالفِعل أن تفكر نحاتة شابة متقدة الأنفاس الفنية كصاحبتنا كاميل كلوديل في أن تَسمح بأن يُقَيِّدَ معصمَها مَن لا يَحترم إحساسها كأنثى، فما بالك بإحساسها كفنانة؟!
أليس مِن باب تبييت النية أن يحاول أوغوست رودان أن يَقتل الإحساس في قلب عشيقته السابقة كاميل كلوديل وهو الذي بلغ مِن شدة إعجابه بمنحوتات تلميذته كاميل كلوديل أن استلهم منها أكثر من فكرة وعمل، لا بل غَدَتْ هي مساعِدَتَه وصار هو يستشيرها في كل الأمور الفنية وكأنها هي الأستاذ لا هو؟!
ألم يَكن ذلك ضربا من سرقة الأضواء بعد أن أصبح الْمُريد (كاميل كلوديل) شيخا وتحول الشيخ (أوغوست رودان) إلى مُريد؟!
مرة أخرى تَخون الأستاذَ الثقةُ، ويُحطم الغرورُ قلبا وعقلا ناضجين في جسد امرأة ما كان لِرَجُل (وفنان) أن يُصَفِّقَ لانتصارها عليه..
صَدِّقْ يا صديقي أن الغيرةَ قاتل خَفِيّ، فما الحال وهذا الذي تَغار منه نصفك الآخَر الذي لن تَرضى له بمنفى غير الموت حربا؟!
إنها رهبة الحرب الباردة في مجال مكاني وزمني قابل للاشتعال سَوْطا..
ألم أقل لكَ إنها السياط الجالدة للضمير الإنساني النائم؟!
مصير بائس كانت تركض عجلاته في اتجاه اللامعقول، وإذا بسيدة المنحوتات كاميل كلوديل تَضرب لها الظروف الحرجة ماديا في المصحة النفسية موعدا مع سكتة دماغية لا غرابة أن تتواطأ معها مجموعة مِن العوامل ضد عبقرية أنثى كانت متوهجة بياضا كأزهار غابة لوز..
تَخمد جذوة اشتهاءات أمّ الفنون، يُخَيِّمُ ليلُ السكون، وتَرحل عربةُ العبقرية وحيدةً تَجُرّ جُثَّةَ كاميل كلوديل الهاربة مِن سجن الحياة إلى فضاء أَكثر رحابة وحنانا تحت الثرى..
هنا تَوَقَّفَتْ عقارب ساعةِ الإلهام.
copy short url   نسخ
11/05/2019
2608